2- أرض أخرى..
ـــــــــــــــــــــــــــ
في الصباح وجدتها واقفة أسفل سلم العمارة تنتظرني مشرقة الوجه وقد عقصت شعرها فبدت كطفلة تنتظر أباها للذهاب للمدرسة.. وكنت أنا منتفخ الوجه عكر المزاج بسبب الأرق طيلة الليل..
- نهارك حليب..
=ما هذه الكلمة؟.. لماذا لا تقولين صباح الخير كالآخرين؟..
- في كوكبي لا نقول سوى نهارك حليب..
=كلمة مستفزة حقا..
وركبنا الحافلة.. واضح أن الحافلات في كوكبها مزدحمة مثل حافلاتنا لأنها لم تبد مندهشة.. وحين مر المحصل مدت يدها إلى حقيبتها لتدفع لنا لولا أن أوقفتها بنظرة حازمة من عيني ودفعت لها أنا.. كانت توشك أن تعطيه ورقة من عملاتهم زرقاء اللون عليها نصب تذكاري عجيب.. همست في أذني وقد فهمت ما هنالك:
- معذرة.. دائما ما أنسى أن العملات غير واحدة في كوكبينا..
مضت الحافلة في تمايل وتهدر حتى وصلت إلى وجهتنا حديقة الحيوان!.. نعم.. فأنا لا أستطيع تركها عند جارتي ولا أخذها للعمل لذا قررت أن آخذها لمكان يمكننا الكلام فيه دون رقباء.. ثم أنني سأطرد كما تقول هي بعد أسبوع فلا ضير من يوم نقضيه في مرح أنا الذي لم أر حديقة الحيوان منذ خمسة عشر عاما.. وهنالك جلسنا نطعم الدببة بالفول السوداني ونتحدث.. قلت لها وأنا ألتهم بعض الفول:
=على فكرة.. اتصل بي د.عدنان أمس وأكد لي ما قلته..
- وهل شككت لحظة؟..
=ضعي نفسك مكاني..
بدأت تحكي لي قصة حياتها وهي تشابه قصة حياتي من وجوه عديدة.. سألتها عن سبب اختلاف جنسينا فقالت إن تشابه الكوكبين لا يمكن أن يكون مطلقا.. إن الأمر كله يتوقف على كروموسوم الذكورة واي إذا وصل البويضة أولا جئت أنا ذكرا وإذا وصل الكروموسوم إكس أولا جئت أنا أنثى.
=وكيف خطر لأبوينا أن يسميانا نفس الأسماء.. سالم وسلمى؟..
- قد تكون صدفة وقد لا تكون.. لماذا يختار الأبوان اسما ما؟.. إنه خلاصة تجاربهما وبيئتهما وثقافتهما.. فإذا تساوت هذه المعايير على كوكبك وعلى كوكبي فإن هناك احتمالا لا بأس به أن يختار كلا الأبوين نفس الاسم..
هززت رأسي.. وناديت بائع الجرائد واشتريت منه جرائد اليوم.. فسمعتها تبدي دهشتها من أن عناوين الجرائد مختلفة البنط واللون عن جرائد كوكبها وشرعت تمرر إصبعها على الأخبار في شغف.. ثم التفتت إليّ وقالت إن معها في حقيبتها جريدة من عالمها.. فلماذا لا أتصفحها على حين تتصفح هي جريدتنا؟.. أخرجت من الحقيبة جريدة عجيبة اسمها المجد تاريخها 14محرم سنة1423.. أرجو ألا يراني أحد وأنا أقرؤها.. أخبار غريبة جدا.. "أسطول (أ.ع.م) يجري مناورات في المحيط الأطلسي.. تايلاند تعزز قواتها في الصين المحتلة..بركان الاسكندرية يجدد ثوراته.. جمهورية كاليفورنيا تشكو في مجلس الأمن الأعمال العدوانية التي تمارسها جمهورية فرجينيا.. هبوط في بورصة الولايات الأمريكية الجنوبية المتحدة".. أصابني الدوار والذهول من كل هذا الخلط.. وكانت سلمى أسوأ حالا مني.. قلت لها مبتلعا ريقي:
=ما معنى هذا الهراء؟.. تايلاند تحتل الصين؟.. بركان في الاسكندرية؟..
- وما هذا السخف؟.. لا توجد عندكم (أ.ع.م)؟..
=وما هي؟.. إلام ترمز هذه الحروف؟..
- أمة عربية متحدة.. في كوكبي اتحدت الدول العربية منذ مائتي عام مكونة وحدة كونفدرالية هائلة.. قوة اقتصادية وطاقة بشرية وتقدم تكنولوجي لا يستهان به.. إن أساطيلنا البحرية تسيطر على نصف العالم..
=والقوة الأخرى؟..
- هي اتحاد جنوب شرق آسيا (نادي النمور).. ثم هناك قوة أخرى هي الولايات المتحدة الأمريكية الجنوبية.. وهي تثير الهلع في قلوب جاراتها الضعيفات مثل جمهورية أوهايو ومملكة بنسلفانيا وسواها..
أخفيت ضحكتي الهستيرية المريرة على الصورة الكاركاتورية التي ترسمها وسألتها بجدية:
=وعاصمتكم؟..هل هي القاهرة؟..
- في (أ.ع.م) توجد ثلاث عواصم.. دمشق.. القاهرة.. الرباط.. تدير كل واحدة شئون الولايات المحيطة بها مع التنسيق التام..
سألتها وأنا أشعر أن أحدنا مخبول:
=وكيف ولماذا جئت إلى عالمنا؟..
قالت وهي تهز حذائها بعصبية:
- د.محمود بكر وهو عالم فيزياء في كوكبي توصل إلى اختراع جهاز اسمه ناقل الجزيئات..
=تيليترانسبورتر؟.. أليس هذا ما تعنين؟..
قالت في كبرياء:
- لماذا تستخدم مصطلحا لاتينيا؟.. قلت لك أن مخترعه عربي..
=معذرة.. فكل قصص الخيال العلمي عندنا تستخدم هذا المصطلح..
- يقوم هذا الجهاز بتحويل جزيئات الجسم إلى طاقة يتم إرسالها بسرعة تفوق سرعة الضوء إلى أي مكان لتعود لحالتها هناك.. وهذا هو الحل الوحيد والممكن لارتياد المجرات الأخرى بالنسبة لكائنات فانية مثلنا.. أبدا لن توجد سفينة فضاء قادرة على هذه المهمة.. لكن هناك مشكلة.. يجب أن يشابه الجو الأيوني للكوكب المستقبل نفس الجو الأيوني للكوكب المرسل حتى نضمن ألا يتغير شكل الجزيئات بعد الرحلة المريعة..
=فهمت.. لا تريدون المخاطرة بإرسال إنسان إلى مجرة أخرى يتحول عند الوصول إليها إلى دستة من مشابك الغسيل..
- بالفعل.. لكن الكون كبير.. وهناك مئات المجرات تشبه مجرتنا بها عشرات الشموس التي تشبه شمسنا حولها عشرات الكواكب التي لابد ان أحدها قد مر بنفس ظروف كوكبنا.. وبالتالي..
قاطعتها في حماس وقد اقشعر جلدي رهبة:
=هناك عشرات الألوف من أرضكم.. أحدها هي أرضنا هذه!..
- وهكذا فإنه يمكن إرسال الواحد منا دون أدنى مخاطرة إلى أرض موازية.. ولما كانت قد مرت بنفس الظروف فإن هناك احتمالا لا بأس به أن تقابل نفس الوجوه وتسمع ذات الأسماء ونفس اللغات لكن هناك اختلافات عديدة كما في حالتنا هذه..
=مثير!..
- الأكثر إثارة هو أن الكواكب المتماثلة في الظروف ليس لها نفس العمر.. فكما قلت لك هناك أرض تسبقكم بعشر سنوات هي أرضي.. هناك أرض أخرى لم تزل في عصر الرومان.. وأرض أخرى في عصر العباسيين.. وأرض في العصر الباليوزوي.. كل شئ ممكن..
=مثل آلة الزمن؟..
- كلا.. ليس هذا هو مفهوم آلة الزمن.. قد تجد ماضيا يختلف تماما عن أي ماض طالعته في كتب التاريخ..
=وهل سأقابلني دائما في كل كوكب من هذه؟..
- ليس بالضرورة.. قد لا تكون ولدت بعد.. وقد تكون مت من زمن.. وقد يكون جدك توفي قبل أن ينجب أباك.. قد تجد نفسك رضيعا أو عجوزا أو ممثلة سينما حسناء أو ديكتاتورا..
شردت نظرتي وهمست:
-إن..إن هذا يثير الدوار..
تلفتت حولها في حذر ثم مدت يدها لحقيبتها وأخرجت آلة صغيرة تشبه الآلة الحاسبة..
- هذا هو..
تأملت الجهاز في خيبة أمل:
=فقط هذا؟.. إن أفلام الخيال العلمي تظهر التيليترانسبورتر دائما في صورة كابين تليفونات.. لهذا ارتبطت في ذهني بهذا الشكل مثلما ارتبطت آلة الزمن للأبد بمنظر كرسي الحلاق..
- كانوا يريدون متطوعين.. وكانت هذه هي فرصتي للهرب من واقعي.. أردت أرضا أخرى لا تعرفني.. لقد أعطاني د.محمود برنامجا يناسب حوالي ألف كوكب.. لكن كل كوكب أزوره يعني انتهاء فرصتي في العودة إليه لأن دائرته تحترق.. يأخذ الكوكب رقما من واحد إلى419.. ثم المجرة تأخذ حرفا من أ إلى ياء.. بعد هذا رقم المدار.. إن الأرض كوكبكم هي أول محاولة لي ورقمها هو 112ب-75 ولن أستطيع العودة لهذا الرقم لو تركت هذه الأرض..
وكيف عرف د.محمود أماكن هذه الكواكب الشبيهة؟..
- بالحاسوب..
=تعنين الكمبيوتر؟..
- كلا.. إنه اختراع عربي في عالمي.. ولم يكن ثمة داع لتسميته باسم أعجمي.. باستخدام الحاسوب وقوانين الاحتمالات ونوع متقدم جدا من جبر المحددات توصل لحساب أماكن هذه الكواكب بدقة..
ثم أشارت إلى زر أحمر صغير:
- هذا هو زر العودة.. تلقائيا يطلب رقم مجرتي (419-أ-3) حيث أعود وأقدم تقريري يوما ما.. إنه تذكرة العودة لي..
ووضعت هذا الجهاز جانبا وعادت تطالع الجريدة.. ألم أقل لكم إنها نسخة مني في كل شئ حتى الإهمال؟!.. قبل أن ندرك ما حدث وثب أحدهم على الحقيبة والجهاز بها وانتزعها وشرع يركض.. إنه لص أغراه منظر الجهاز فظنه شيئا ثمينا غير عالم -الغبي- أنه لن يجد مشتريا لجهاز ناقل الجزيئات مهما حاول..
صرخت سلمى في هلع:
- سالم.. لو ضاع الجهاز أو ضغط على الزر الأحمر سيذهب هو لعالمي وأبقى أنا هنا للأبد!..
الرئيسية 
