4- سوء تفاهم..
ــــــــــــــــــــــــــــــ
ديترويت في 15يناير1965
بروفسير د.محمد شاهين:
زميلي العزيز:
مع بدايات العام الجديد أهنئك بمنصبك العلمي الجديد كأستاذ الأنثروبولوجي-علم السلوك الانساني- وأعتقد أنهم قد أحسنوا الاختيار في هذه المرة على الأقل.. إننا نفتقر- بشدة - إلى وجودك العلمي الحميم بيننا.. وإلى حضورك وآرائك الصائبة وفي هذا الوقت بالذات أعتقد أن هناك حاجة ماسة إليك في إحدى المشكلات العلمية المعقدة التي أتمنى دراستها معك.. تتذكر بالطبع مناقشاتنا القديمة عن مذهب الكانيباليزم -أو أكل لحوم البشر- وكيف أنني كنت أرى أنه طبيعة في أي مجتمع بشري بدائي في حين كنت أنت ترى أنه لا يشكل طبيعة إنسانية وإنما هو نتاج ظروف معقدة ومعتقدات أسطورية قديمة منها أن المجتمعات البدائية كانت حين تأكل البشر تعتقد بذلك أنها تكتسب مزاياهم وتمنع أرواحهم من ملاحقة أفرادها.. وكنت تستشهد بفقرات كاملة من كتاب (الغصن الذهبي) لفريزر الذي يتحدث عن حياة وعادات الانسان البدائي..ذلك الكتاب الذي لا أحترمه كثيرا للأسف.. لقد جاءت الفرصة لإثبات أينا على حق.. والآن دعني أحك لك هذه القصة التي أخبرني بها أحد تلاميذي المصريين وحدثت منذ سنوات خمس عندكم.. المهندس شاكر شاب مهذب متحضر يعمل في إحدى شركات البترول.. عمره ثلاثون عاما.. غير متزوج.. وليس له أقارب معروفون.. كل من عرفوه قالوا إنه متدين ونقي اللسان لا يذم ولا يشي وقد نال رضا رؤسائه ومرءوسيه بما لا يقبل الشك.. والآن تخيل معي.. يذهب هذا المهندس في مهمة علمية في الصحراء الغربية.. جولة استكشافية بالطائرة لا يرافقه فيها سوى اثنين من المهندسين والطيار.. وبالطبع مع طائرة صغيرة بمحرك واحد كهذه تحدث الحوادث بكثرة.. انقطع الاتصال ولم تفلح فرق الإنقاذ بعد أسبوعين من البحث في العثور على أي أثر للضحايا الأربع.. برغم إرسال عدة طائرات لمسح المنطقة.. وأعلنت الشركة أنها تعتبر مهندسيها والطيار مفقودين.. هل تعرف هذه النوعية من القصص؟.. ثم بعد شهرين يحدث ما تتوقعه.. يعود المهندس شاكر بعد أن وجده بعض البدو.. وكان في صحة لا بأس بها أما زملاؤه فهلكوا جميعا.. وكان واضحا أنه ظل جوار حطام الطائرة ينتظر في يأس أن يجده أحدهم واستطالت لحيته وأظفاره وتمزقت ثيابه تماما.. وقد لوحت الشمس بشرته حتى كادت تحرقها.. كما أن الرمد الصديدي كاد يلتهم عينيه.. لكنه وأكررها كان في صحة لا بأس بها.. سادت الفرحة أوساط زملائه.. ووسط هذا الهرج لم يلحظ أحد أنه لم يحك تفاصيل حياته في منفاه الإجباري هذا.. وهذا ينافي الطبيعة البشرية الثرثارة التي نعرفها.. إن واحدا مثله كان سيحكي قصته للجميع.. ولربما نشرها في كتاب اسمه (ثلاثون يوما في طائرة) أو (سجين الصحراء) أو شئ من هذا القبيل.. لم يلحظ أحد هذا في غمرة الفرحة.. كما أن أحدا لم يسأل نفسه عن التغذية التي كان يحصل عليها ليحتفظ بهذه الصحة الجيدة.. ولم يسأل أحد نفسه عن عظام الطيار والثلاثة المهندسين التي وجدوها في الطائرة نظيفة لامعة بشكل غير عادي.. إلى هنا والقصة عادية.. ثم بدأ المهندس شاكر يتغير.. صار أكثر شحوبا واصفر لون وجهه.. شفتاه صارتا قاسيتين جافتين وبنيته صارت ناحلة ولم يعد يثرثر أو يمزح وقد عزا زملاؤه هذا التبدل إلى التجربة المريعة التي أحدثت شرخا في شخصيته يصعب التئامه.. واستقال من عمله.. وترك منزله دون أن يودع جيرانه.. والآن تعال معي نفكر فيما حدث.. لا يحتاج المرء إلى ذكاء كثير كي يعرف نوعية الطعام التي كان يحصل عليها في الصحراء وبين جثث زملائه.. فهذه القصص تحدث كثيرا منها قصة المكسيكي الذي سقطت به الطائرة فالتهم المضيفة.. والأندونيسي الذي افترس زملاؤه في طوف تتأرجح به الأمواج في المحيط الهادي.. إن الجوع وغريزة الحفاظ على الحياة شريكان لا يجتمعان إلا على شر.. والآن فأنا وأنت واثقان أن هذا المهندس قد أكل لحم البشر.. والسؤال هو: هل استطاع التخلص من هذه العادة التي حركت في داخله ذلك التراث البدائي الهائل الذي غطت عليه الحضارة؟!.. لقد ترك بيئته كلها مما يعني أنه يريد أن يذهب إلى مكان لا يعرفه فيه أحد فما هو غرضه؟.. ما هو نمط حياته اليوم؟.. ما هي التغيرات النفسية التي طرأت عليه؟!.. أريد منك أيها الزميل أن تجد لي هذا المهندس - بأي ثمن - وأن تضعه تحت مجهرك لأنه نموذج حضاري غير عادي.. وللمزيد من العلم أخبرك بأنه قد غير اسمه إلى (وجدت) أو (همت) أو شئ كهذا.. وهو يقيم في أحد أحيائكم المسمى بالدقي وعنوانه هو 4- شارع الترعة.. هذا هو العنوان الذي أعطانيه تلميذي المصري الذي كان أقرب صديق لهذا المهندس إلا أن علاقتهما تهدمت في ظروف مؤسفة.. أرجو أن أتلقى ردك سريعا.. وكن حذرا..
بإخلاص.. بروفسور د./ر.ل.كاثريل
**************************************
القاهرة في 12 فبراير 1965
عزيزي بروفسور (كاثريل): لقد أسعدني الحظ بتلقي خطابك أيها الزميل الموقر.. يا حارس بوابة العلم وكابوس الجهل الدائم!!.. أكتب إليك هذا الخطاب لأزف إليك الخبر.. لقد وجدت صيدنا الثمين.. ولم تكن مهمتي سهلة بحال.. إنك قد قلت لي إن اسم صاحبنا هو(وجدت) أو (همت) وبمعنى آخر اسم من تلك الأسماء التي لحق بها التبديل التركي للتاء المربوطة بتاء مفتوحة وهي كثيرة في لغتنا ومنها: ثروت وعفت وطلعت الخ.. بل إننا نستعمل اسم مرفت في العربية غير عالمين أنه اسم مروة الذي خربه الأتراك فاستبدلوا بتائه المربوطة تاء مفتوحة وبدلوا واوه إلى فاء..و.. دعك من هذا البحث اللغوي ونعود لموضوعنا.. قلت لي إن اسمه (همت) أو (وجدت)..و(همت) لا يستعمل في مصر إلا للفتيات أما (وجدت) فيستعمله الأتراك فقط ولا نستعمله نحن المصريين أبدا.. لهذا سألت بواب العمارة - بعد إعطائه جنيها وسيجارة- عن صاحب الاسم الذي له هذا الرنين...(ثروت) أو (طلعت) أو (رأفت).. قال لي أن هناك رجلا مريبا في الطابق الرابع اسمه رفعت.. رفعت إسماعيل!.. وهو يعيش وحده وليس له أصدقاء.. ويمضي طيلة ما بعد الظهر منفردا في شقته.. وهو يزعم أنه أستاذ في الطب لكني لا أعرف له عيادة ولم أسمع عنه أبدا برغم أنه من نفس الجامعة التي تضم كليتي وكليته.. الأكثر غرابة أن البواب قال لي إنه وجد منذ أيام عظاما بيضاء غريبة الشكل ملقاة في المنور.. وأنه حين سأل رفعت هذا عما إذا كان قد رماها بدا مرتبكا مندهشا.. بل إنه - ضع عشرة خطوط تحت هذه الجملة - أعطاه ربع جنيه كي يحضر له هذه العظام إلى شقته.. أما جاره - وهو مدرس ورب أسرة- فقال لي أنه يشك كثيرا في هذا الرجل المريب وأنه لم ير له أهلا يزورونه وأنه يمارس عادة الدق ليلا فوق رأسه وهو نائم لسبب مجهول وأنه - كما يزعم - يسافر كثيرا للخارج.. كما قالا لي -البواب والجار- إنه قبيح الشكل ومنظره مرعب وفي العقد الرابع من العمر تقريبا أي أنه في نفس سن رجلنا.. سأحاول التعرف عليه وزيارته.. لكن مهمتي لن تكون سهلة.. إنك لا تزور آكل لحوم البشر كل يوم.. ولن أتخذ أية خطوة قبل أن يصلني ردك..
المخلص: د.محمد شاهين..
**************************
ديترويت في 2مارس 1965
زميلي العزيز:
أعتقد أنك محق في شكوكك.. ومعذرة عن خطئي في الاسم لأن هذه الأسماء العربية والتركية تتشابه في آذاننا الغربية.. أريد منك قبل أن تزور هذا الرجل أن تأخذ احتياطاتك كأن تتسلح -ولو بمدية- وأن تترك عنوانك ومعلومات لدى أحد أصدقائك حتى إذا تأخرت أكثر من ثلاث ساعات عنه أبلغ الشرطة.. أما نصائحي فهي كالتالي:
- لا أعرف المدخل الذي ستستعمله للتقرب إليه وأعتقد أن الوحيد الذي يعرف هذا المدخل هو أنت لأنك مصري مثله وتعرف ما يجب أن يقال.. وما لا يقال..
- إذا دخلت بيته حاول أن تبحث عن آثار ثقافية بدائية.. لابد انك واجد هذا الأثر لأنه موجود في بيت كل آكل لحوم بشر تم اكتشافه..
- حاول أن تتبين نوع طعامه وأن تجلب أي أثر منه لكي تفحصه..
- لاحظ طريقة كلامه.. فإن لم يخني حدسي ستجد لديه عيبا ما في الحروف وهي سمة عامة في أكلة لحوم البشر لأن أسنانهم تتشوه تدريجيا من جراء معالجتهم للأنسجة القاسية.. مما يؤدي لتغير أسلوبهم في النطق..
مرة أخرى.. كن حذرا..
بإخلاص.. بروفسور د.ر.ل.كاثريل..
الرئيسية 
