5- صخرة التضحية..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال سير جيمس:
- كانت الصحافة تؤيد الاحتمال الثاني لأن الوحش لا يظهر بتاتا في السنوات التي لا يجئ فيها الفيضان.. إن بحر الشمال ملئ بالأسرار.. وهو يحتمل وجود مئات الوحوش مثل وحشنا..
=وما رأيك أنت؟..
- أنا متعادل.. التجريب هو القياس الوحيد الذي أعرفه..
=لماذا لا تمدون شبكة - كالتي يضعونها حول الموانئ لمنع تسلل الغواصات المعادية - لتسد قنوات كاليدونيا هذه؟..
- وعندئذ؟..
=وعندئذ نعرف.. لو لم يعد الوحش للظهور في لوخ نس فمعنى ذلك أنه سجين في بحر الشمال الرهيب..
- لم تزل متسرعا كعهدي بك!..
قالها في عتاب.. ثم بدأ يشرح لي ما غاب عني:
- يحتاج هذا إلى شبكة طولها كيلومتران وارتفاعها 260 مترا كي تسد القناة.. فكيف نصنعها؟.. وكيف نعطل الملاحة؟.. ثم هب أننا فعلنا ذلك.. فإننا لن نثبت شيئا.. لو كان الوحش داخل البحيرة لحظة وضع الشبكة سيظل يظهر كعادته دون أن نعرف شيئا.. فكر في حل آخر..
شرعت كالمحموم أفكر.. لم أصل لشئ فقلت له أن حماري قد غلب.. فقال وهو يعبث بالقلم:
- السونار.. الموجات فوق الصوتية قادرة على مراقبة مداخل القناة دون أن تسدها.. وتستطيع دراسة الأعماق دون جهد وبتكاليف لا تذكر.. لقد قام قسم فيزياء الصوت - تحت إشراف ماجي وموافقة برترام هوايت مدير القناة- بمراقبة القنوات السبع طيلة فترة الفيضان بوساطة تقنية معقدة من الموجات فوق الصوتية..
=والنتيجة..
- سلبية.. لم يمر من قناة كاليدونيا سوى أسماك وبرغم هذا عاد نيسي يمارس عمله.. فماذا نستنتج من ذلك؟..
=أن الوحش كان هناك دائما.. في القاع..
- هو هكذا.. لقد لاحظت ان ظهور الوحش كان دائما حول محيط دائرة مركزها قرب قلعة إيركهارت.. لقد حاول الكومندور ر.ت.جولد أن يحدد مركز هذه الدائرة بالضبط ووجد أنه صخرة ضخمة في وسط البحيرة.. وقد استكشفنا هذه الصخرة خفية حاملين بعض المعاول.. فوجدنا عظاما بشرية - كلها لأكف ومعاصم- ووجدنا صندوقا من الخشب المتآكل تفتت في أيدينا حين حاولنا إخراجه.. وداخل الصندوق كانت هناك قلادة غريبة الشكل وبوق عاجي أو ربما قرن ثور بري ولفافة من الجلد..
تجمدت في مقعدي لأن القصة بدأت تأخذ مجرى شديد الاثارة بالفعل.. أنا أحب هذه الأشياء وأعتقد أن أكثركم يشاركني الرأي.. استطرد سير جيمس في قصته:
- وها هي ذي اللفافة..
ومد يده وأخرج من درج المكتب شيئا متآكلا قذرا عليه رسوم باهتة ساذجة.. زوارق وأشخاص.. وشئ كالثعبان يخرج من الماء.. و.. لم أفهم شيئا من هذا الهراء.. ولم أحاول أكثر.. قال سير جيمس:
- أنت تعرف أن شمال اسكتلندا كان محتلا بقبائل الفايكنج في القرن الثاني عشر.. في عصر الملك دافيد بن هنري الأول وماتلدا..
طبعا لم أكن أعرف شيئا من هذا لكني هززت رأسي بما يعني أن هذه المعلومة قديمة جدا ومكررة.. قال سير جيمس:
- إن لدينا ما يحملنا على الظن أن هذا المخطوط خاص بقبائل الفايكنج.. وهو يرسم قصة مسلية جدا.. سأشرحها لك لأننا قد قتلناها دراسة.. المشهد الأول يصور الآلهة غاضبة.. وأعتقد أنها هي أودين معبودتهم الوثنية.. المشهد الثاني يصور وحشا كالثعبان له معرفة حصان يهاجم الناس من الماء.. المشهد الثالث يصور رجلا ينفخ في البوق عند أحد الخلجان.. المشهد الرابع يصور فتاة مقيدة على الصخرة ونصفها السفلي متدل في الماء في حين يتقدم الوحش ليفترسها.. وعلى صدرها قلادة معينة.. لاحظ أن القمر غير باد في الصورة.. والآن نستطيع تجميع أطراف القصة.. لقد اعتاد الفايكنج - أو السلت - تقديم القرابين لوحش لوخ نس كي يتركهم وشأنهم لأنهم اعتقدوا أنه انتقام من معبودتهم الوثنية أودين وكانت القرابين تقدم له عند هذه الصخرة في صورة عذراوات شابات يقيدن بالسلاسل ويلبسن قلادة الفداء.. ثم يقف كاهنهم عند خليج إيركهارت وينفخ في البوق.. من ثم يتحرك الماء ويرتفع رأس الوحش خارجا من كهفه.. لابد أن تأثير هذا كان دراميا وإنني لا أحب أن أرى هذا المشهد أبدا.. كان هذا يحدث بانتظام بحسب التقويم الديني لهذه القبائل الذي لا أعرف عنه شيئا للأسف لكننا نستطيع التنبؤ به.. وبمرور الوقت لم يعد هناك فايكنج ولا سلت.. فماذا يفعل هذا الوحش المسكين الذي فقد مصدر طعامه؟!.. لقد عاد ليغفو في كهفه مكتئبا منتظرا قدوم الفرج وأن يسمع مرة أخرى صوت البوق يدعوه للعشاء.. ومع الوقت تعلم أكل السمك.. لكنه ظل يدور حول صخرة القربان في المواعيد التي تعلمها.. مواعيد الفايكنج لتقديم القرابين.. إن مذاق الفتيات ظل حيا في ذاكرته وقد ظل يأمل أن تعود تلك الأيام.. هل لديك أية أسئلة؟!..
قلت بعد أن تنحنحت لأنظف حنجرتي:
=هل هو نفس وحش الفايكنج؟.. أعني كيف يعيش كائن حي من عصر الفايكنج حتى اليوم؟.. حوالي ثمانية قرون؟َ!..
- ربما كان هناك أكثر من واحد يتناسلون فيما بينهم ويورثون ذرياتهم ذكرى مبهمة عن صخرة القرابين.. وربما كان نفس الوحش وهو في حد ذاته ظاهرة علمية فلم لا يكون عمره هو نفسه ظاهرة أخرى؟!.. إن السلحفاة قد تعيش قرنين.. فلم لا يعيش هذا الشئ ثمانية قرون؟!..
=والقلادة؟.. لابد أنه كان يبتلعها في كل مرة.. فكيف؟..
- كانوا يصنعون قلادة فداء جديدة في كل مرة.. هذا ليس صعبا ولا مكلفا..
=الواقع أن نظريتك تبدو متماسكة.. واسمح لي أن أضيف إلى ذلك أن سفن الفايكنج التي كانت تجوب بحر الشمال كانت تحمل في مقدمتها نحتا خشبيا لرأس وحش يشابه تخيلنا لنيسي.. كأنهم أرادوا أن يرضوا أودين.. أو يخدعوا الوحش كي لا يهاجمهم.. لابد أنه كان مرعبا حين يبرز لسفنهم في ظلام الليل وسط بحر الشمال الرهيب..
وارتجفت حين تخيلت المشهد.. لحسن الحظ أنني لم أكن هناك.. قال سير جيمس:
- لكني لم أقل بعد أخطر ما في الموضوع.. لقد سرقت القلادة والبوق من الكومندور جولد في ظروف غامضة..
=سُرقت؟..
- نعم.. ثم استجد شئ آخر هو أن الوحش صار يظهر في أوقات غير منتظمة.. أي أن هناك من يستعمل البوق ليناديه كلما أحب ذلك..
=ولأي غرض؟..
- هذا هو ما أعطيتك لمحة عنه ليلة أمس.. لقد زرنا الصخرة منذ أسبوعين -أنا وماجي- فوجدنا سلسلتين مثبتتين بالصخور وتتدليان في الماء..جذبنا السلسلتين لنعرف فماذا وجدنا؟..
=لا.. لا تقل..
- نعم.. كما فهمت أنت.. كفين ومعصمين مقيدين بالسلاسل وقد بترا تماما.. إنهما ما تبقى من إنسان نهشه الوحش بالكامل وترك الجزء المقيد لأنه لم يستطع انتزاعه.. كانت اليدان رقيقتين مما يوحي أنهما لفتاة.. وفي البلدة كان البوليس يبحث عن شقراء تدعى جوسلين اختفت منذ ثلاثة أيام ولم يعرفوا لها أثرا.. وبالطبع لا يحتاج المرء لكثير ذكاء كي يعرف أين ذهبت جوسلين هذه..
صحت في تقزز وأنا أشعر بالعالم يدور من حولي:
=سير جيمس..هل تعني أن هناك من عاد يمارس تقديم القرابين البشرية لوحش لوخ نس؟..
- بالفعل.. وسواء كان هذا الشخص سفاحا أو مجنونا أو عالما مخبولا فالنتيجة واحدة.. وهو يعرف ما نعرفه بالضبط..إنه يخطف الفتاة ويقيدها على الصخرة ثم ينادي الوحش بالبوق ليبعثها إلى فالهالا وهو الاسم الذي كان يطلقه الاسكندنافيون والجرمان على العالم الآخر.. وكان الأخيار في عقيدتهم يدخلون الفردوس فيجلسون على موائد عليها لحوم الخنزير البري التي لا تنفد ويشربون اللبن المقدس من عنزة هايدروكس.. أما الأشرار والخونة فيذهبون إلى مملكة الجحيم (نيفهايم) حيث يلاقون أعتى ألوان العذاب..
=ياللفظاعة!..
- الملحوظة الأخيرة هي أن هذه الفتاة من أصل سويدي.. أي أن أجدادها كانوا من غزاة الشمال..
الرئيسية 
