4- مرة أخرى..
ـــــــــــــــــــ
في الصباح سرت أنا وماجي على شاطئ لوخ نس متشابكي الأكف.. تقع إنفرنسشاير في شمال اسكتلندا وسط مجموعة من المرتفعات اسمها مرتفعات جرامبيان وتوجد في إنفرنسشاير أعلى نقطة في بريطانيا كلها.. واسمها بن نيفس.. ومن نقطة بن نيفس يمكنك أن ترى الوديان كلها نائمة عند قدميك وترى بحيرة نس بوضوح شديد.. إن بحيرة نس هي أقرب لأخدود ما بين مرتفعات جرامبيان والمرتفعات الشمالية وهذا الجزء الأخدودي يدعى جلينمور.. وتعتبر بحيرة نس كما أخبرتني ماجي أضيق بحيرات اسكتلندا حيث لا تزيد في بعض أجزائها على كيلومتر ونصف اتساعا.. عمقها 266مترا.. مساحتها56 مترا مربعا.. طولها 83.4 كيلو متر.. لا أدري ما هي جدوى هذه الأرقام لكنني أسجلها للدقة الجغرافية فحسب.. ولكي أثبت لماجي العزيزة أنني لم أكن تلميذا معتوها إلى هذا الحد..قلت لها معابثا:
=ماجي.. لم أر حتى اللحظة رجلا اسكتلنديا يرتدي التنورة!..
ضحكت في سخرية وقالت:
- إن هذا هو ولعكم بالأنماط.. إنها زي شعبي نرتديه أحيانا وليس طيلة الوقت.. نفس السبب الذي يجعلني لا أراك بالجلباب والطربوش برغم أننا لا نتخيل المصري إلا هكذا..
=إن صورة الاسكتلندي في ذهننا هي صورة رجل يرتدي البيريه والتنورة ويعزف موسيقا القرب ويشرب الويسكي طيلة اليوم..
- نعم.. كما نتخيل المكسيكي بقبعة عريضة وحزامي رصاص وزجاجة تاكيلا ويطلق النار طيلة اليوم.. والأمريكي راعي بقر أبدي.. والألماني بشوارب كثة وسالوبيت وشوب بيرة.. إن السينما والقصص المصورة قد دمرت تفكيرك وجعلتك تميل إلى التنميط..
=هذا صحيح..لكن التنورة..
- على فكرة.. اسمها ليس تنورة ولكن كلتيه.. كما أن الاسكتلنديين ليسو بخلاء كما يحبون أن يصفوهم في القارة..
=هذا ما لم أختبره بعد..
ضحكت في دلال.. ثم أخذت تنظر لوجهي في ثبات.. آه يا ملاكي.. ليت لي وجها أجمل من هذا كي أريه لك.. في ضوء النهار تبينت بوضوح ما اقترفته السنون من جرائم في حق هذا الوجه.. وجهها.. لم تعد نضرة.. ولم تعد صافية.. لقد صارت واحدة أخرى.. لكنها ظلت رائعة برغم كل شئ.. ولم أكن في حاجة إلى كثير جهد كي أقع في غرامها من جديد.. سيكون هذا هو الحب الثاني في حياتي.. أولا أحببت فتاة رقيقة هشة اسمها ماجي.. ثم الآن سأحب امرأة ناضجة منهكة اسمها -أيضا- ماجي.. ولن تتهمني إحداهما بأنني أخونها مع الأخرى.. قالت في شرود وهي تتأملني:
- بحق السماء.. أنت قد شخت حقا..
=آسف على كوني قد شخت وأعدك ألا أكرر هذا الخطأ..
أخذت تضحك.. ثم قربت وجهها من وجهي.. وهمست:
- للأبد؟!..
=ماذا؟..
- ستبقى معي للأبد؟..
=وحتى تحترق النجوم كلها..ولن..
وهنا صرخت في هستيريا وهي تشير للبحيرة:
- هل تراه؟.. إن نيسي يتحرك هناك!!..
اللعنة.. إن هذا الأخ ينوي أن يحطم أعصابي.. وهو لا يختار إلا أسوأ اللحظات - أو أفضلها -كي يعلن عن وجوده ويواصل رحلته البلهاء في هذه البحيرة.. هو ذا ذلك الجسم الاسطواني الرمادي يشق طريقه بين الأمواج من بعيد ورذاذ الماء ينتشر حوله.. أقرب شئ لغواصة تتحرك تحت الماء وقد علا الماء منها حوالي ثلاثين سنتيمترا.. إلا أنه بدا أكثر ليونة ومرونة من المعدن.. لا شك أنه كائن حي.. سمكة عملاقة أو حوت أو شئ من هذا القبيل.. صاحت ماجي - وكنت قد بدأت أمقتها هي ووحشها- في ذهول:
- لم يحدث أبدا أن رآه أحدنا في ضوء النهار..
ثم نظرت ناحيته في حسرة.. وتنهدت:
- لو كان معنا كاميرا..
قلت لها وأنا أمد يدي في حقيبة اليد التي أحملها:
=معي واحدة.. ولكن لا تقولي إنك تنوين إضاعة عدة لقطات على هذا الشئ الأبله..
صاحت وهي تنتزع مني الكاميرا وتضبط عدستها:
- هل كانت معك ولم تهتم بإخباري؟.. لو أنه غاص تحت الماء قبل أن أصوره لقتلتك!!..
=لكني لا أفهم..ستكون مجرد صورة أخرى لا تثبت شيئا.. أمواج وجسم رمادي وسطها ثم إن الفيلم أبيض وأسود مما سيزيد الأمر سوءا.. مجرد كثافات رمادية لا يبدو فيها أي شئ..
- شششششششش..
قالتها وهي تصوب عدستها على الهدف..و..كليك!..كليك!..كليك!..عشرات اللقطات لما تعتقد أنه معجزة اليوم..كليك!..كليك!..كراك!!..انتهى الفيلم لحسن الحظ.. وهنا - قبل أن أفهم -تركتني واقفا كالأبله وشرعت تركض باتجاه القصر وهي تصيح ملوحة بالكاميرا:
- دادي!..إنه نيسي.. لقد صورته في النهار..
وقفت وحدي على شاطئ لوخ نس أرمق ذلك الشئ المتحرك عن بعد.. في غيظ رفعت قبضتي وصحت بالعربية التي لم يفهمها لحسن الحظ أحد:
=الأيام بيننا يا ماسورة المجاري الصدئة..
على أنني تذكرت ما رواه لي السير جيمس ليلة أمس مما جعلني أفضل عدم تحدي هذا الكائن بل أقرر أن أنهي جولتي لأعود للقصر..
***********************************
كئيب جدا هذا القصر الذي يملكه السير جيمس.. وكل ركن فيه يذكرني بأشباح اسكتلندا العديدة التي نراها في السينما.. ودروع الفرسان الواقفة في الردهة تبدو كأنها حية على وشك الحركة في أية لحظة.. وبالطبع لابد أن تحت هذا القصر شبكة كاملة من الممرات والمتاهات ومقبرة منسية وربما كنزا مدفونا.. ثم رئيس الخدم جراهام الوقور المتحذلق الذي يثير وجوده في نفسي الرعب وجوا من التشاؤم.. لو كانت هذه قصة لأجاثا كريستي لوجدوا السير جيمس مقتولا في مكتبه ولما وجد المخبر-هركيول بوارو طبعا- متهما أفضل من رئيس الخدم الغامض هذا.. لكن هذه ليست قصة لأجاثا كريستي لحسن حظ السير جيمس أو لسوء حظي أنا..
أخذ السير جيمس يسير بي بين الصور الزيتية يعرفني أفراد عائلته العريقة التي كان هو آخرها - بحكم النسب وبحكم الواقع- لأنه لم ينجب وريثا ذكرا.. وكان هو يعشق الطب لذا اتجه لدراسته وصار طبيبا وأستاذا لي ولغيري..
-إن عائلتي تعود إلى عهد ماكبث نفسه!..
=ماكبث!!..
ضحك في جذل..وقال:
- لا أصدق أنك قد أمضيت سنتين في اسكتلندا دون أن تعرف أن ماكبث- بطل مسرحية شكسبير - كان اسكتلنديا..
=لكنه شخصية خيالية..
- كلا.. الأساس التاريخي للمسرحية صحيح.. إلا أن مكدوف لم يقتله في الواقع بل عاش حتى عام 1055.. ومات ميتة طبيعية.. ثم تلاه مالكولم الثالث في 1058.. ثم يتتالى تاريخ اسكتلندا المتشعب المعقد وسلالة ملوكنا الذين حكمونا من قصر هوليرود هاوس..
ثم وضع كتفه على كتفي وقادني لغرفة مكتبه وهو يقول:
- ولكن دعنا من هذا.. تعال لنرى صور وحشك التي التقطتها ماجي.. لقد وصلت الآن..
وعلى مكتبه الأثري الفاخر تناثرت صور فوتوغرافية لما التقطته ماجي صباحا.. وكانت- كما توقعت- في غاية الرداءة وعدم الوضوح.. وقد زادتها قطرات الماء المتطايرة فوق العدسة سوءا.. سألني وهو يقدم لي سيجارا ويجلس خلف المكتب:
- فاشلة تماما..هه؟..
=لقد أنذرتها..
- لكن هناك شيئا جديدا يستحق الاهتمام هو أن وحش لوخ نس قد غير من نظام ظهوره..
=نظام؟!..
- بالطبع.. أليس وحشا بريطانيا؟.. إنه منظم جدا.. وظهوره ليس عشوائيا على الإطلاق..
ومد يده لدرج مكتبه وأخرج لفافة ورق مقوى فردها على المكتب.. وكانت عليها نقاط حمراء وخضراء ورسم دقيق لساحل اسكتلندا مع أسهم عدة.. وبدأ يشرح لي - في تؤدة- أن هذا المخطط يحاول تحديد أماكن وتواريخ ظهور هذا الوحش مع ربطها بالوضع الفلكي وحالة القمر والساعة والظواهر الطبيعية كالمد والجزر الخ.. وكان من الواضح أنه يتحرك في دائرة مركزها على بعد مائة متر من قلعة إيركهارت.. كما أنه من الواضح أيضا أنه يختار ليالي المحاق - حين يغيب القمر - ويبدأ الجزر وينتصف الليل كي يظهر.. وقد رسم له السير جيمس- أو العبقري الذي لاحظ كل هذا - منحنى تفصيليا يتنبأ بدقة أين وكيف سيظهر المرة القادمة.. في أغسطس64 سيظهر في منتصف ليلة الحادي عشر هنا.. في سبتمبر 64سيظهر في منتصف ليلة اليوم السادس هنا..صحت بانبهار:
=إنه عمل رائع.. إذن كل ما تحتاجونه هو أن تكونوا هناك في هذه اللحظة بكاميراتكم وكشافاتكم..
- لم نفعل هذا بعد وسأقول لك السبب بعد قليل..
وناظرا إلى الخريطة المعقدة أمامي تذكرت شيئا:
=وأين يذهب بعد هذه الفترات؟.. أين عرينه؟!..
- هذا هو السؤال كما يقول هاملت.. ثمة احتمالان.. الاحتمال الأول هو أنه يعيش في كهف تحت البحيرة وأنت تعرف المقولة الشهيرة إن كل كهف تحت البحر في اسكتلندا يحوي وحشا خرافيا.. الاحتمال الثاني هو أنه يعيش في بحر الشمال وحين يعلو الفيضان في شهري يناير وفبراير يتمكن من دخول لوخ نس عبر إحدى قنوات كاليدونيا السبع.. ولكن.. لكم من تساؤلات تحيط بهذا المخلوق!..
الرئيسية 
