1- فلننعش ذاكرتنا..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دعوني أذكركم بما حدث حتى لا أكلفكم مشقة البحث عن الكتيب الحادي عشر ومحاولة تذكر ما إذا كنتم قد وضعتموه على رف المكتبة أم فوق جهاز التلفاز أم تحت الفراش وما إذا كنتم قد أقرضتموه أم بعتموه أم استخدمتم اوراقه لتلميع مرآة الحمام أم ألقيتم به في أقرب صندوق قمامة.. لا ترهقوا أنفسكم ودعوني أعد حكاية ما حدث.. لقد تربى هن- تشو- كان في أحد أديرة التبت بعدما نذرته أمه لهذا الدير.. وهناك اصطلح على تسميته الزهرة الزرقاء لتفرده.. إن هذا الدير ليس بوذيا.. بل هو خاص بعقيدة غريبة كانت سائدة في القرن الخامس عشر هي النافاراي.. وفي الدير يدرك الصبي أن هؤلاء الرهبان يمارسون فنا عجيبا هو فن تفادي الخطر أو القتال السلبي.. ويكون عليه أن يخوض تدريبات قاسية مع الأخ ميانج يحرز فيها تقدما ملحوظا.. وتكون الذروة هي عبوره لنفق النيران المتراقصة حيث الاختبار الحق لقدرته على التفادي وبالطبع ينجح نجاحا مشرفا.. وهنا اسمحوا لي أن أقدم خصمه الحميم - أو صديقه اللدود - المدعو جينغ-تشا.. هو ليس نقيا متبتلا إلى هذا الحد.. وليس خصما شريفا على الإطلاق.. وسيأتي دوره المقيت بعد لحظات.. وينتقل هن- تشو- كان إلى مرتبة أعلى.. إذ يطلعه الكاهن الأكبر على كتاب شوكارا.. الكتاب الذي يمثل كل ما كانه النافاراي وكل ما سيكونونه.. إنه سر الأسرار وقدس الأقداس بالنسبة لهم.. والآن يبدأ الفتى -الذي عرف هذا السر الكهنوتي- في تعلم القتال الإيجابي سارايانا ليتمكن من حماية الدير وحماية كل مقدساته.. والسارايانا رياضة عسكرية معقدة قائمة على مهاجمة عدة مناطق حساسة في جسد الخصم بعضها يؤدي للإغماء..وبعضها يؤدي للشلل.. وبعضها - للخصم المتحمس حقا - يؤدي للوفاة.. لكن قواعد القتال تحتم إنذار الخصم أولا بأن السارايانا ستبدأ وقد أعذر من أنذر.. وفي يوم كئيب يدرك الفتى أن خصمه جينغ- تشا قد تحالف مع كهنة الماهايانا أعداء النافاراي الطبيعيين.. وثمن هذا التحالف هو كتاب الشوكارا.. لقد مات كل النافاراي مسمومين بالشاي.. ويكون على الفتى أن يفر بالكتاب الثمين بعيدا.. لقد صار هو الكاهن الأخير.. آخر نافاراي على وجه الأرض ولئن هلك هو أو أسلم الكتاب فلن يبقى أثر لهذه الفلسفة العظيمة إلى أبد الدهر.. وفي الكتاب وجد أسلوبا بديعا -لكنه خطر- يدعى شانكين.. يعتمد أسلوب الشانكين إلى نقل الفتى إلى زمن بعيد وأرض بعيدة غير محددين سلفا ولكن الفتى لا يملك ترف الاختيار.. ويفر..يفر بعيدا.. إلى أرض لم يرها من قبل ووجوه سمراء لم يألفها قط.. ونعرف نحن أنه وصل إلى مصر في القرن العشرين.. إلى قرية كفر بدر قريتي الحبيبة!.. إنها مصادفة غير عادية لكننا اتفقنا على أن تصدقوها.. ويجيد الفتى التخفي متظاهرا بأنه معتوه.. ويندمج في أسرة أحد الخفراء وتنشأ علاقة حب مبتورة بينه وبين ابنة الخفير التي لم تصدق قط أنه ذلك الأبله الذي يدعيه.. ويصدق حدسها حين تقع فريسة لبعض اللصوص الذين يوشكون على إيذائها مما يضطر الفتى إلى استعمال أسلوب السارايانا للدفاع عنها برغم ما في ذلك من فضح لسره.. لكنها لم تسعد بذلك.. لقد انتابها الذعر وأدركت أن هذا الأجير الذي يعيش معهم هو نوع من الجان أو الشياطين.. وكان أن لجأت إلى خبير الشياطين الوحيد الذي تعرفه.. أتعرفون من؟.. طبعا أنا ولا فخر!..
***************
كأن هذا هين!.. التعرف على شاب غريب الأطوار لا يثق بك لحظة ومحاولة معرفة سره.. لم أتمكن بالطبع سوى من تبين أن الفتى ليس مصريا وليس معتوها بل هو يخفي سرا لا يعلمه إلا الله.. وحين أوشكت على الاستسلام كان الفتى قد قرر أن يثق بي.. لماذا؟.. لأنه وجد ضفيرة وثيابا مما دله يقينا على أن خصمه جينغ-تشا قد لحق به في هذا الزمن وهذا المكان وبالتالي صار العثور عليه مسألة ساعات أو أيام.. لاذ الفتى بي.. وبعربية متعثرة لم تمارس قط اعترف لي بقصته وطلب مني أن أعاونه في العثور على جينغ-تشا الذي هو حتما متنكر في مكان ما وينتظر.. ولقد استعنت بصديقي مأمور المركز لكن النتيجة كانت سلبية.. لم أجد أثرا لخصمه المشاغب في القرية.. إن هن- تشو- كان لفي مأزق حقا.. وكانت الفكرة التي خطرت لي هي أن أرسله إلى داري بالقاهرة حيث يذوب في الزحام فلا يجده أحد.. وتم تنفيذ الفكرة فورا..
********************
وفي شقتي بدأت أجد لونا من التسلية في صحبة هذا الفتى ببراءته وسذاجته ومثاليته وشجاعته..
وشاهدت معه أغرب التدريبات التي كان يمارسها على سطح البناية التي أسكنها..
صحيح أنه كان مولعا باصطياد الفئران من حين لآخر..
وصحيح أنه كاد يقتل لصا قابلناه في الحافلة لأنه سيئ على حد قوله..
إلا أن المحصلة كانت أن الحياة معه مسلية إلى أقصى حد وقد أذاب جدار الوحدة الذي حاصرني إلى حد مروع..
لهذا -وهذه طبيعة الأشياء- كان لابد أن تحدث مصيبة..
************************
المصيبة كانت هي زوج أختي الذي اتصل بي من كفر بدر يقول لي إن هناك شابا يشبه هن- تشو- كان كان يفتش عن توأمه المفقود بين القرى..
وأن هذا الشاب كان يشعر بشوق شديد نحو أخيه..
وبالتالي دله زوج أختي على عنواني في القاهرة شاعرا بالسعادة لهذا العمل الخير الذي وفقه الله إليه!..
وقبل أن أتخذ قرارا صائبا كان قد وصل لشقتي..
جينغ- تشا شخصيا اقتحم الشقة وضربني علقة ساخنة دون مبرر حقيقي ثم طفق ينتظر عودة الكاهن الأخير من الخارج..
وعاد الكاهن الأخير..
وبدأت المعركة المروعة بين العدوين اللدودين..
لا ننس هنا أن جينغ- تشا كان على علم لا بأس به بأساليب الساريانا بالإضافة إلى شراسته..
وهكذا نرى أن الخصمين متساويان تقريبا للأسف..
وكان عليّ أن أفر بعيدا..
أفر إلى شقة جاري زكريا بالطابق الأسفل لنغلق الباب على أنفسنا ونصغي إلى صوت الشجار بالطابق العلوي..
وهنا أدركنا حقيقة مروعة..
لم يكن جينغ- تشا وحده..
بل معه حشد من رجال الماهايانا الذين حاصروا البناية وقطعوا خطوط الهاتف..
إنهم استخدمونا كوسيلة للضغط على المحارب الشجاع..
فإما الكتاب وإما حياتنا نحن السكان الأبرياء معدومو الحيلة..
ياله من مأزق!..
إن الكاهن الأخير يعرف كيف يدافع عن نفسه..
لكن مهمته تصير معقدة جدا حين تطالبه بالدفاع عنا كذلك..
وبرغم أنني أمقت أغلب جيراني إلا أنني لا أحب موتهم إلى هذا الحد..
وحتى إذا تمنيته فليكن ذلك بعيدا عني!.. وهكذا.. تبدأ قصتنا الحالية..
************************
عندما تغرب الشمس وتلطخ دماؤها ثوب السماء الأزرق.. عندئذ يبدأ فجر النافاراي..
************************
الرئيسية 
