كان حصار البذور مشكلة.. فكل إنسان بدا وكأنه يتحين الفرصة ليسرق بعضها أو يخفيها في جيبه ولقد اضطررنا إلى تفتيش جيوب وحاجيات كل من تعامل مع هذا النبات.. وكانت النتيجة غالبا إيجابية.. حتى أنا وجدتني أخفي عشر بذور في الدرج الذي أضع به مناديلي.. ووجد د.صبحي بذرتين في جوربه حين عاد لداره.. كنا نتصرف كمدمني المخدرات الذين تجد السموم في كل مكان من عالمهم.. ولست مبالغا في هذا الوصف.. لقد صار الموكاسا وباء حقيقيا.. وسيدا على عشرات العبيد الذين لم يعرفوا ما حل بهم وبإرادتهم.. لكن الحصار كما أعتقد كان محكما.. ولمدة شهور لم نسمع عن حادث هجوم واحد للنبات على إنسان.. ولم يبلغنا أحد بمشاهدة الأوراق السوداء المشئومة.. لهذا ولأول مرة أعلن مسئولو وزارة الزراعة اختفاء نبات الموكاسا من الوجود ذلك الاختفاء الذي لم يضايق أحدا.. ومن لغو القول أن أكرر أن تفاصيل هذا الحادث ظلت سرية تماما فلم يدر بها سوى حفنة من الرجال وأن من علموا طرفا من القصة ظنوا الأمر يتعلق بحشرة ما أو وباء من أوبئة المزروعات.. كنا في ذروة الحرب النفسية مع إسرائيل في تلك الآونة.. وكنا نعرف تماما أن هذه القصة ستتضخم وتنتفش بفعل الإشاعات وسيعتقد رجل الشارع أن الموكاسا سلاح بيولوجي توصل إليه العلماء الإسرائيليون وأدخلوه إلينا.. والواقع أنني أسائل نفسي أحيانا.. إن العالم الذي قدم البذور إلى عماد هو عالم أمريكي اسمه دايفيد أوبريان.. إن يهودية الاسم لا تخفى على أحد وأنا قد تعلمت من زمن ألا أثق بأجنبي يدعى دايفيد أو أبراهام أو ليفين أو حتى سارة.. فهل الأمر كذلك؟.. هل كان أوبريان يعرف حقيقة هذا النبات؟.. هل هذا النبات وليد معالجة إشعاعية أو كيميائية تمت في أحد معامل الحرب البيولوجية؟.. لا أظن.. ولا أحسب أنهم وصلوا إلى هذا القدر من التقدم التكنولوجي.. الخلاصة أن التعتيم الإعلامي على الموضوع كان ضروريا في تلك الحقبة الكئيبة من تاريخ البلاد.. لكن التعتيم الإعلامي لم يمنعني من أن أقوم بواجبي الأخير نحو عماد أرقى إنسان عرفته في حياتي لهذا تعاونت مع اثنين من زملائه في الجامعة وقمنا بعمل ورقة علمية محكمة تبدأ بهذه السطور: "إن لدينا من الأسباب ما يدفعنا للاعتقاد بوجود حلقة واصلة بين المملكتين النباتية والحيوانية.. وانتهت الورقة بجملة شديدة الأهمية عندي: "وإننا نقترح تسمية هذا النبات باسم (إيماديللا نيجرا) والمقطع الأول نسبة لاسم مكتشفه الذي فقد حياته ثمنا لاكتشافه أما المقطع الثاني فيدل على لون أوراقه الأسود.. وأرسلنا الورقة مع الأفلام والرسوم التخطيطية ونموذجا حيا صغيرا إلى مجلة بوتاني عالمين أنها ستكون ضربة العصر ولقد نشرت المجلة المقالة ونالت إعجابا علميا هائلا وأثارت تساؤلات عديدة لكنها لم تصل للرأي العام لأن الجمهور أكثر سطحية من أن يقرأ هذه المجلات العلمية العتيقة.. إنه نفس السبب الذي لأجله كتب نيوتن نظرياته باللاتينية التي يستحيل فهمها على هواة القشور.. كان يريد أن يريح ويستريح فلا يقرأ نظرياته إلا من يستحقون قراءتها!..
****************
لقد مرت أعوام طوال على هذه القصة.. لكني ما زلت أجفل كلما شممت روائح معينة.. وما زلت أرى الأوراق السوداء في كل مكان.. وما زلت أشعر بشئ يمشي فوق عنقي كلما جلست إلى مكتبي لأكتب.. أومن أن كل هذه وساوس لكن الفكرة لا تبرح بالي.. ثمة شخص في مكان ما يحمل بذرة أو بذرتين وهو ما زال يذكر كيفية زراعتها وينتظر الفرصة المناسبة عندئذ يدسها في التربة جوار جثة فأر أو عصفور ميت.. ثم تبدأ المأساة.. لابد أن هذا الشخص موجود.. ومن يدري؟.. ربما كان أنا.. أمس ابتعت بعض أصص النباتات المملوءة بالتربة ونصف كيلوجرام من اللحم المفروم لا أدري لماذا ولا ما الذي أنتويه بالضبط!.. أنا لا أعرف.. فهل تعرف أنت؟..
********************
في القصة القادمة أستكمل معكم حكاية الكاهن الأخير.. رجل النافاراي الذي آويته في داري فجلب الوبال على الجميع.. ستكون قصة مشوقة من دراما المكان الواحد وستعرفون وقتها كيف أن العجوز رفعت إسماعيل لم ينته بعد و.. لكن هذه قصة أخرى..
د.رفعت إسماعيل
القاهرة1993