كنز القصص والمعلومات
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

كنز القصص والمعلومات

يحتوي المنتدى على كمية رائعة من المعلومات والقصص من كافة الأنواع لإمتاع وتثقيف القارئ
 
الرئيسيةالرئيسية  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخولدخول  

 

 12- أسطورة الكاهن الأخير - الفصل الثامن

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Admin
Admin



المساهمات : 299
تاريخ التسجيل : 31/01/2018
العمر : 43
الموقع : البداري

12- أسطورة الكاهن الأخير - الفصل الثامن Empty
مُساهمةموضوع: 12- أسطورة الكاهن الأخير - الفصل الثامن   12- أسطورة الكاهن الأخير - الفصل الثامن Emptyالجمعة فبراير 02, 2018 2:34 am

8- الهرب..
ــــــــــــــــــــــــ
حكى لي هن- تشو- كان أو الأخرس أو الزهرة الزرقاء أو الكاهن الأخير كل شئ عن عقيدتهم.. كما حكى لي ما عرفته أنت في الفصول السابقة.. وسأحاول هنا أن ألخص ما قاله بألفاظي أنا.. فلم يعد داع لأن أغرقك في تفاصيل الحوار الركيك الذي شربته وحدي حتى الثمالة.. قال لي الفتى إن النافاراي مثلها مثل البوذية ليست ديانة بل هي فلسفة للتأقلم مع الحياة.. وقال لي إنها انفصلت عن البوذية بعد ما سئم مؤسسها شيان-قه من كل تلك السلبية والانفصالية التي تتعامل بها البوذية مع العالم.. إلا أنها ظلت أمينة على الكثير من فلسفات بوذا.. كان بوذا هو النبيل سيدهارتا جوتاما من نيبال الذي دربه نساك البراهمانا على التقشف إلا أن الفتى ظل ظامئا إلى شئ لا يدري كنهه.. لقد ظل ظامئا إلى الحكمة وفهم الكون.. وفي بودجايا شمال الهند ساقته قدماه إلى شجرة جلس يتأمل في ظلها ويقال إنه فهم كل شئ في جلسته تلك.. وبعد أيام خرج إلى الناس يخبرهم أنه وصل إلى الحقيقة.. فما هي هذه الحقيقة؟.. قال جوتاما إن هناك أربع حقائق تحكم البشر.. هذه الحقائق هي المعاناة والرغبة في شئ ما تولد هذه المعاناة لهذا يجب إطفاء الرغبة في هذا الشئ ويجب على المرء أن يتعلم كيف يطفئ رغبته هذه.. ولإطفاء الرغبة في كل شئ وضع جوتاما مبادئه المتمثلة في العجلة الثمانية التي يقدسها البوذيون والتي يمكن تلخيصها في ثلاث نقاط:
1- سيلا: أي السلوك الخلقي.. لا تسرق.. لا تقتل.. لا تكذب..إلخ..
2- سمادهي: يجب أن تتعلم التأمل والتركيز..
3- براجنا: أي الحكمة..يجب أن يدرك المرء أن كل شئ وهم..حلم..
من الصعب فهم هذه الفلسفة ومن المستحيل تطبيقها.. لكن البوذية انتشرت في آسيا إلى حد كبير ومنها نشأ فرعان أساسيان:
1- الهينايانا (الناقلة الصغيرة) وهي منتشرة في سيلان وبورما وسيام ولاوس وكمبوديا ويرتدي رهبانها الثياب الصفراء ويحلقون رؤوسهم تماما..
2- الماهايانا (الناقلة الكبيرة) وقد سبق لنا الحديث عنها..
ويرى البوذيون أن العمل (كارما) يؤدي لنتائج بعضها ضار لهذا يحاولون الوصول لحالة الانطفاء الدائم التي تلغي نتائج الكارما وذلك عن طريق التأمل المستمر.. ويسمون حالة الانطفاء الدائم باسم نرفانا.. وهي اللحظة التي يتلاشى فيها علاقة المرء بما حوله ويكتمل استغناؤه عن الحياة المادية..وجاءت النافاراي لتلغي أكثر هذه المعتقدات.. وكما قلنا سابقا تعتمد فلسفة النافاراي على تفادي الأذى والتسامح إلى أقصى حد ممكن لكن إذا زاد الأذى عن حده كان الرد القاسي المرير الذي يدمر الخطر تماما.. ويرتدي النافاراي ثيابا زرقاء ويعقصون شعورهم خلف ظهورهم ويعلقون قرطا في آذانهم كما أنهم لا يرفضون منتجات الألبان على عكس البوذيين المخلصين.. إن سيطرة الروح على الجسد هي جوهر فلسفة النافاراي.. وهم يؤمنون أن البوذيين نصابون.. في حين يؤمن البوذيون أن النافاراي أوغاد ويؤكدون أن كتاب الشوكارا مسروق منهم لأنهم هم الأصل في كل هذا الهراء.. وأخيرا.. لا يعرف بوجود النافاراي سوى عدد محدود جدا من أهل التبت لأنهم متحفظون..وأسرارهم لا تخرج للعالم الخارجي أبدا.. لهذا أرجوكم ليبق هذا الكلام سرا خاصا فيما بيننا.. وفي النهاية علمت ما كان من موضوع جينغ- تشا الوافد الجديد على القرية وعلمت أن سر إطلاعي على كل هذا هو معرفة ما يمكن أن أسهم به في العثور عليه.. فأنا أتكلم العربية وأنا ابن القرية وأعرف ما ينبغي عمله لإيجاد نافاراي ضائع.. أدركت دون جهد أن هن- تشو- كان يخشى جينغ- تشا كالموت ذاته وأدركت كذلك أن كارثة دانية قد لاحت في أفق حياتي.. سألته وأنا لا أتوقع إجابة:
=وأين أخفيت الكتاب؟..
لا إجابة بالفعل.. هو يثق بي لكن ليس إلى هذا الحد.. فليكن.. وبعد أن غادرني الفتى عائدا إلى عمله ودعت أمي وركبت سيارتي إلى المركز.. كان الغروب يزحف على القرية حين قابلت المأمور الذي تربطني به علاقة حميمة بعد قصة النداهة إياها.. فما إن رآني حتى احتقن وجهه وتطاير اللعاب من فيه وشرع يصرخ في جنون كأنه يموت:
- أخيرا!.. هيه أيها العجوز!.. تذكرت أصدقاءك!..هاه!
ظللت واقفا في هلع منتظرا حتى تنتهي عاصفة مرحه وترحيبه.. وأنا أتساءل في سري: لماذا يصرخ هذا الرجل؟.. وما إن هدأ حتى جلس منهكا يلهث وطلب لي شايا..
ثم سألني عن الريح الطيبة التي ألقت بي هاهنا.. فقلت وأنا أناوله لفافة تبغ:
=أبحث لأسباب يطول شرحها عن غريب ظهر في القرية أمس..
هرش رأسه في حيرة ثم غمغم:
- مطلب غريب لكن يسهل التحقق منه.. يكفي إرسال الخفراء في جولة سريعة.. ولكن لماذا؟..
=سيطول شرح أسبابي كما قلت.. ولا تنس أنك مدين لي بخدمة..
- هذا مطلب عادل..
وهكذا.. حين عدت لداري كنت واثقا أن غريبا لم يزر القرية أمس.. أو بمعنى أدق لم يره أحد بعد.. هذا يعني أن هن- تشو- كان واهم أو كاذب.. أو أن جينغ- تشا أجاد الاختفاء في هذا البلد فحتى عمال الترحيلة كانوا معروفين لدى مقاولي الأنفار ومن العسير أن يندس أحدهم بين صفوف هؤلاء العمال.. والسؤال هنا هو: هل هو يبحث عن الكاهن الأخير أم هو يعرف مكانه وينتظر؟.. عندئذ لو صح كل هذا السخف يكون هن- تشو- كان في مأزق حقيقي والموت يترصده في كل لحظة.. ولكن ما شأني أنا بمشاحنات كهنة النافاراي من أجل كتاب عمره عشرة قرون؟.. إنني والحق يقال إنسان غريب غريب..
********************
إلا أن تلك الليلة كانت أسود ليالي حياتي.. طيلة الوقت يدور شريط المحادثة في ذهني وأسمع أصواتا وأرى وجوها.. وثمة شعور عام بضرورة أن أقحم نفسي في هذه القصة.. وحين صاح الديك أخيرا كنت قد أزمعت أمرا.. إلا أنني حين جلست لألتهم الفطور الذي أعدته لي أمي فوجئت بالفتى آتيا لزيارتي وكانت نظرة أمي إليه غنية عن كل كلام.. ألن يتركنا هذا المعتوه وشأننا؟!.. أزحت طبق البيض المقلي تجاهه وقلت باسما:
=هيا يا هن- تشو- كان.. بسم الله!..
إلا أنه لم يبد استجابة.. كان واضحا أنه قضى ليلة أسود من قلب الكافر.. أعصابه منهارة تماما.. والإرهاق على كل تجاعيد وجهه التي تضاعفت خلال ساعات.. فقد دمدم بعصبية:
- جينغ- تشا!..
=لم أجده..
- هو.. هنا..
=أعرف.. لكنهم لم يجدوه..
عض شفته السفلى في حنق:
- هذا.. خطر..
أنهيت طعامي.. ثم بدأت أطرح عليه الفكرة التي ولدت عندي بعد الليلة الفظيعة التي مرت بي.. لماذا لا يهرب؟.. إن القاهرة كبيرة حتى في ذلك الزمن ويستطيع فيل كامل أن يذوب فيها فلا يجده أحد إذن لماذا لا ينزح للقاهرة؟.. ولماذا لا يعيش عندي في شقتي حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا؟.. ولماذا لا يحاول العودة للتبت؟.. أنا لا أعرف إذا ما كانت هناك سفارة للتبت في مصر ولا أعرف كيفية استخراج تأشيرة للذهاب إلى هناك لكني على الأقل أستطيع شحنه إلى نيبال أو الهند أو الصين حيث يكون على مسافة فركة كعب من وطنه.. هو لن يكلفني شيئا خاصة وهو لا يأكل اللحوم وسيسليني إلى حد بعيد في وحدتي وسيطرد الأشباح من غرفة نومي ولربما نجحت في إقناعه بتنظيف المنزل والطهي مقابل إقامته!.. واستغرق الأمر وقتا لا بأس به لإقناعه.. فقد كان ضائعا تماما ولا يدري ما هو الصواب.. لكنه في النهاية وافق.. ثم إنني ذهبت إلى السقا فأخبرته بما أنتويه.. طبعا قلت له إن حالة الفتى تهمني طبيا وسأقوم بعرضها على زملائي في كلية الطب وأفهمت سعدية أن الفتى ليس شيطانا بل هو مصاب بمرض من نوع نادر يجعله يتصرف بأساليب عجيبة.. في نفس الوقت تسلل الفتى إلى المخزن فحفر الأرض واستعاد كتابه الثمين ثم ردم الحفرة وخرج إلينا ليودع بفتور واضح الأسرة التي استضافته في هذا الزمن.. لم يكن الفراق مؤثرا لأن سعدية لم تعد تميل إليه بل هي تخشاه كثيرا في الواقع.. ولهذا وحين ركب الفتى السيارة بجواري بدا لي أن صفحة القرية قد أغلقت نهائيا في كتاب حياته.. كان متوترا راغبا في الفرار.. وقد أنساه التوتر أن يندهش.. فقد كانت هذه أول سيارة يركبها في حياته.. وطيلة الوقت المرهق إلى القاهرة لم ينبس ببنت شفة حتى أدركت أنني قارفت خطأ جسيما بقبولي اصطحاب هذا الصنم إلى داري.. ولو كنت بالذكاء الكافي لاقتنيت قطا أو كلبا.. لكننا لا نملك أن نختار أخطاءنا..
*********************

على أن حياتي لم تكن مملة إلى هذا الحد مع هن- تشو- كان ففي الساعة الواحدة صباح ذلك اليوم صحوت من النوم على صوت جلبة آتية من غرفة المكتب في شقتي وكنت أعلم أن الفتى يغفو هناك على حشية فرشتها على الأرض لأنه لم يعتد النوم على الأسرة.. وكانت هذه هي ليلته الأولى في داري.. لهذا أضأت الأنوار وهرعت إلى هناك.. فوجدته واقفا على الأريكة متخذا وضعا متحفزا للقتال وهو يحرك ذراعيه حركات سريعة عصبية لا داعي لها.. يالك من معتوه.. صرخت فيه بعصبية والنعاس لم يبرح جفني بعد:
=هل جننت أخيرا؟!..
- تدريب.. أنا.. قتال!..
=وهل التدريب لا يحلو لك إلا فجرا؟!..
لوح بذراعه في الهواء وهتف:
- نافاراي.. ليل..!..
بدأت أفهم.. فهؤلاء القوم مصممون على مخالفة الطبيعة البشرية في كل شئ وهم لا يجدون وقتا أفضل للتدريب سوى حين ينام خلق الله من معدومي اللياقة البدنية مثلي.. ولكن.. من يشرح هذا للجيران؟.. وهكذا اتخذت الإجراء الوحيد الممكن.. أحضرت له قميصا وبنطالا من ثيابي وجعلته يرتديهما.. وكان القياس واحدا تقريبا ثم إنني جررته من يده وأغلقت باب الشقة صاعدا إلى سطح البناية.. كان السطح خاليا سوى من بقايا قرميد مهشمة وبعض أكوام الرمل.. وكان كل هذا يتلألأ في ضوء القمر الفضي البارد.. ولما لم يكن هناك من يرانا سوى خالقنا.. جلست على قالبين من القرميد وأشعلت سيجارة ثم لوحت بذراعي في الهواء طالبا منه أن يستمر:
=هيا.. أرني كيف تتدرب..
بدا عليه الرضا لشعوره بالهواء الطلق.. وبدأ يتنفس بعمق ثم أنه انتزع القميص ليقف عاري الجذع كاشفا عن أجمل -وإن لم يكن أضخم- تكوين عضلي رأيته في حياتي.. كل عضلاته مرسومة محددة كأنما في أطلس تشريح ملون.. وعلى ظهره رأيت وشما لتنين مجنح.. وبين دخان التبغ لمحته يأتي بحركات تمهيدية بطيئة.. ثم بدأ يتحرك.. يثب.. يتراجع.. يهجم.. يضرب خصوما وهميين ويتفادى ضرباتهم.. يتقلب على الأرض.. وسقطت لفافة التبغ من أناملي دون أن أشعر.. إن هذا الذي أراه ليس حقيقيا.. لا يمكن أن يكون هناك توازن عضلي بهذه الدقة والرشاقة.. لا يمكن أن يكون هذا الجسد من لحم ودم..
**********************
عندما تغرب الشمس وتلطخ دماؤها ثوب المساء الأزرق.. عندئذ يبدأ فجر النافاراي..
**********************
كان الكاهن الأخير يطير في الهواء.. يسقط على ذراعيه.. يتقلب.. يرفع وجهه نحو قرص القمر.. لم يعد هناك وكذا أنا.. لقد ذاب تماما.. تلاشى في ذلك السر الذي يحكم قوانين الكون ودوران الذرات وهجرات الطيور.. امتزج بالنجوم والليل والقمر حتى غدا جزءا منها.. كنت أرمق في انبهار السلويت الأنيق المميز له يتحرك أمام قرص البدر المكتمل فأدركت أن هذا المشهد هو الوحيد الجدير بأن يوضع أمام هذه الخلفية الكونية الخالدة.. ثم كان يدور فتلتمع عضلاته وقسماته في الضوء الفضي الخافت.. ولم يكن يشعر بوجودي.. بل أراهنكم لم يكن يشعر بوجوده هو نفسه.. عندئذ -وعندئذ فقط- أدركت أن هذا الفتى صادق في كل حرف قاله لي.. لقد كان إنسانا مختلفا تماما عن الآخرين.. لقد كان زهرة زرقاء.. في الصباح الباكر أزمعت أن أريه القاهرة.. مدينتي الجميلة العجوز المنهكة تتمطى تحت شمس الصباح في كسل ومعه نخترق الدروب.. كان مندهشا من كل شئ.. سأل عن كل مكان.. ويثير فضوله كل ما يراه.. على أن اهتمامه الخاص كان منصبا على الحافلات.. فهو لم يرها من قبل.. وبالطبع لم يرها في حالة التكدس الجسدي المريع الذي يميز حافلاتنا ولقد بدا لي من الطريف أن أدعوه إلى ركوب إحداها.. وشرعت من طرف خفي أرمق ذهوله ومحاولته ألا يصطدم بتلك أو يدوس قدم ذاك فلقد كان هذا تحديا رهيبا لكاهن نافاراي مدرب على التفادي.. ولم يثر منظره أية ريبة لأنه بدا للقوم مجرد سائح آسيوي آخر.. إلا أن حادثا صغيرا كاد يكشف أمرنا.. إذ فجأة سمعنا صراخ امرأة وسمعنا صراخ الناس يدعو السائق أن يتجه لمخفر الشرطة فعلمت أنها القصة المعتادة:هذه المرأة لم تجد حافظة نقودها.. وهنا وجدت شخصا بادي الشراسة يثب من نافذة الحافلة.. مد أحدهم يده ليمنعه لكن اللص أخرج مدية بشعة المنظر لوح بها في وجهه مهددا ثم واصل هربه من النافذة وقافزا إلى الشارع بين صفوف السيارات..

نظرت بطرف عيني إلى هن- تشو- كان لأرى رد فعله.. فوجدت علامات اللامبالاة كاملة على وجهه فأدركت أنه لا يريد لفت الأنظار أو التدخل.. وفي الشارع تصدى أحد الشباب المتحمسين للص.. إلا أن هذا بادره بضربة خفيفة من المدية جرحت وجهه ثم أطلق ساقيه للريح تاركا الشاب ممسك وجهه وقد انثنى على نفسه.. كانت هذه هي الغلطة التي ارتكبها اللص وما كان ينبغي أن يفعل.. إذ في ثوان تبدلت ملامح هن- تشو- كان ورأيته يثب كالنمر من النافذة بين أجساد الناس المحتشدين الذين يرقبون ما يحدث.. ورأيته يركض كالفهد بخطوات لا تصدق خلف اللص.. شعر اللص أن هناك من يقتفي أثره فزاد سرعة جريه.. لكن هن- تشو- كان كان يقطع في كل وثبة أربعة أمتار كاملة وأخذت المسافة بينه وبين اللص تضيق وتضيق.. وهنا أدرك هذا اللص أن الصواب هو التوقف والاشتباك.. ومكشرا عن أسنانه كالذئب وقف في وجه هن- تشو- كان ملوحا بمديته بما معناه: الويل لك إن تماديت!.. كنا بعيدين عن المشهد.. لكننا جميعا سمعنا هن- تشو- كان يصرخ بصوت مرعب:
- تشا سارايانا!..
قالها وهو يباعد ساقيه.. وبالطبع ذهل اللص من هذا لكنه واصل التلويح بسلاحه هناك حيث وقف على الرصيف بمنتصف الشارع..
- جوانغ سارايانا!..
ومد ذراعيه إلى أقصى امتداد لهما مباعدا ما بين أصابعه.. ثم..
- كيوا سارايانا!..
وهو يرجع رأسه للوراء.. ثم.. بعد ثانية تعالت أصوات الركاب يطلبون الرحمة للص الذي تحول إلى خرقة صالحة لتلميع الأحذية.. وبالطبع لم تعد في فمه سن واحدة سليمة.. يالك من مجنون يا هن- تشو- كان!.. ستجلب علينا القاهرة كلها وكل رجال الشرطة.. وعندئذ ستبدو قصتي عن النافاراي عجيبة بعض الشئ.. فضلا عن احتمال لا بأس به أن يعرف عدوك بهذه القصة..
- سوان هاتشاه سارايانا!..
كذا هتف وهو يرمق بقايا ضحيته المكدسة على الرصيف.. إلا أنني كنت قد لحقت به وجذبته من ذراعه لأبعده عن الزحام الذي بدأ يتبلور حولنا ومضينا نمشي حثيثا بين الفضوليين الذين لم يجرؤ أحدهم على إيقافنا لأن الذهول كان يعم الجميع..
=أهنئك على الدعاية التي صنعتها لنفسك!.. سنراك في التلفزيون قريبا تدرس الدفاع عن النفس..
- أنا.. أضرب.. سيئ..
=نعم.. نعم.. ولكن سنواصل هذه المناقشة الفكرية فيما بعد..
*******************
كالنمر الذي يفضل النوم في الشمس فلا يخرج مخالبه إلا لحظة الخطر الحقيقي..
*************************
هادئة مضت الأيام ولكنها لم تكن مملة قط.. تعلمت منه الكثير عن فلسفة النافاراي والتبت والبوذية وتعلم مني الكثير عن العرب والفراعنة وأكل الفول المدمس.. الحق أقول لكم إنه كان ظريفا لطيف المعشر.. وكان يتعامل مع الحياة ببراءة وانبهار يلذان للنفس بالاضافة إلى أن روحه كانت اطهر من حبات المطر وأنقى من الثلج الأبيض.. أما عن إقامته في داري فلم تكن ثمة مشكلة لأن الجيران اعتادوا كثرة أسفاري وغرابة أطواري.. ولم يجدوا غرابة في أن أستضيف صديقا آسيويا في داري.. كان الفتى قد ارتدى بذلات عصرية أنيقة ابتعتها له وشذب خصلات شعره واعتاد وضع المنظار الأسود الفاخر فبدا كأنه رجل أعمال ناجح قادم من هونج كونج.. صحيح أن هناك خطرا لا بأس به في أن يستوقفه أحدهم سائلا إياه عن جواز سفره وعندئذ سيعتبر متسللا للبلاد لكن هذا لم يحدث حتى الان لحسن الحظ..
**********************
في ذلك اليوم الكئيب حدث ما أخشاه.. كان هن- تشو- كان قد نزل يتجول بالجوار كعادته في الأيام الأخيرة في حين كنت منهمكا في تقشير البصل في المطبخ والمخاط يسيل من أنفي مخلوطا بالدمع.. حين رن جرس الهاتف.. خرجت للصالة لأجيبه وأنا أمسح أنفي في كتف البيجامة ومنظاري مكسو بالدموع ومن الهاتف دوى صوت طلعت زوج أختي صارخا:
- كيف حالك يا دكتور؟..
أدركت أنه يتحدث من الهاتف الوحيد بقرية كفر بدر الموجود عند العمدة.. وهو من نوع الهواتف التي تعمل بالمانفيللا وترغمك على الصراخ حتى ليسمعك الطرف الآخر دون هاتف!.. أخذ يسألني عن كل من بطرفنا.. وأنا أرد في اقتضاب أن أحدا لم يمت بعد للأسف وهنا صاح في مرح:
- هل ما زال الأخرس عندك؟.. لقد سأل عنه أخوه أمس!..
=أخـ.. أخوه؟!..
ضحك من قلبه وبدأ يفسر لي (ضربة المعلم) التي حققها:
- أمس كنت مع الحاج محمد السقا حين مر علينا سائق لوري صديق من القرية المجاورة وسأل عن شاب غريب الملامح وفد على قريتنا من شهر أو أكثر.. قال لنا إنه يبحث عنه لأنه شقيق التبّاع الذي يعمل معه وهو فتى يشبه صاحبنا تماما في ملامحه.. وإن كان يتكلم قليلا.. وقد قال إنه يبحث عن أخيه في كفر بدر لأنه ضاع منه منذ شهور..
كان مخي يغلي بالحمى بينما طلعت يواصل حكايته:
- الغريب أن هذا التباع هو نفسه غريب الملامح غريب الأطوار ظهر فجأة في تلك القرية وأراد سائق اللوري أن يكسب فيه ثوابا فأخذه ليعمل معه.. وتطوع ليساعده في البحث عن أخيه..
فتحت فمي لأسأل السؤال الذي سأجن لو لم أسأله:
=وهل.. هل أخبرتماه عن الأخرس؟!..
- بالطبع.. وماذا تظن؟.. إن الانسان قلما يجد فرصة ملائمة لعمل الخير كهذه الفرصة!..
=و.. و.. أخبرتماه بعنواني في القاهرة؟..
ضحك في فخر وصاح:
- طبعا.. وكتبته له على ورقة صغيرة.. سيكونان عندك اليوم أو غدا على الأكثر.. ولكن ماذا حدث يا دكتور؟.. هل أنا أتوهم ما أسمعه أم أنت حقا تبكي؟!!..
=........................!
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://yousefahmed-com.ahlamontada.com
 
12- أسطورة الكاهن الأخير - الفصل الثامن
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» 12- أسطورة الكاهن الأخير - الفصل الأول
» 12- أسطورة الكاهن الأخير - الفصل الثاني
» 12- أسطورة الكاهن الأخير - الفصل الثالث
» 12- أسطورة الكاهن الأخير - الفصل الرابع
» 12- أسطورة الكاهن الأخير - الفصل الخامس

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
كنز القصص والمعلومات :: الفئة الأولى :: أساطير ما وراء الطبيعة-
انتقل الى: