كنز القصص والمعلومات
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

كنز القصص والمعلومات

يحتوي المنتدى على كمية رائعة من المعلومات والقصص من كافة الأنواع لإمتاع وتثقيف القارئ
 
الرئيسيةالرئيسية  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخولدخول  

 

 11- حلقة الرعب - الحلقة الثالثة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Admin
Admin



المساهمات : 299
تاريخ التسجيل : 31/01/2018
العمر : 43
الموقع : البداري

11- حلقة الرعب - الحلقة الثالثة Empty
مُساهمةموضوع: 11- حلقة الرعب - الحلقة الثالثة   11- حلقة الرعب - الحلقة الثالثة Emptyالجمعة فبراير 02, 2018 2:02 am

القصة الثالثة .. حشرة الشيطان ..يحكيها د. رفعت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كانت الساعة هي الثانية بعد منتصف الليل .. لقد هدأت الأمطار المصطدمة بزجاج النافذة لكن العواصف مستمرة .. وكنا جالسين نتحدث عن قصة د. محمد .. قال عادل في تهكم وهو ينهض ليريح ساقيه المتصلبتين:
- مرة أخرى تخدع يا د. محمد وتعطي صبغة غير مادية لأمور مادية تماما .. هل تذكر قصتك مع آكل لحوم البشر؟ ..
- إن ما حدث كان خديعة .. لكن رعبه كان حقيقيا ..
قالها شكري وهو يدون بعض الأفكار في أجندة صغيرة .. ثم إنه نظر لي متسائلا:
- والآن .. قصتك يا د. رفعت ..
نهضت واضعا يدي في جيبي وتفكرت حينا ثم قلت:
=لا أدري حقا.. إن لدي عشرات القصص.. لكنها جميعا طويلة ولن تترك مجالا لراو آخر.. ثم تذكرت شيئا.. يوسف وحشرة الأنثروفاجا و.. كيف نسيت هذه القصة؟.. كيف؟.. حسنا.. هناك قصة قصيرة نوعا ولربما شوقتكم.. لكن عدوني إذا شعرتم بالملل أن تخبروني بذلك.. لا أحب أن أكون سمجا أو ثقيلا..
- غريب أن تقول أنت بالذات هذا!..
كانت هذه العبارة بالطبع صادرة من خصمي الطبيعي شكري.. لكني تجاهلته وبدأت أروي قصتي للإناس المحترمين الآخرين..
*******************
قلت لهم:
إن أشد ما يثير رعبي لهو الجهل بالخطر.. وفي كل قصصي أردد عبارتي الخالدة: (لم أكن أعرف ذلك..لأني كنت ساذجا..ساذجا).. تخيلوا لحظة دخول ذات الرداء الأحمر لجدتها التي لا تعرف أنها ذئب متنكر.. كلنا نعرف ذلك لكنها لا تعرف.. حتى لنكاد نصرخ: اهربي..اهربي!.. لكنها بالطبع لا تسمعنا.. جوناثان هاركر يزور قصر دراكيولا وهو الوحيد الذي لا يعرف من هو دراكيولا.. رائحة الكبريت انبعثت من كاترين في القبو المظلم لكني لم أربط بين ذلك وبين مصاصي الدماء.. وفجأة تلتمع الحقيقة كضوء شهاب.. ويدرك بطل القصة بعد فوات الأوان أنه في مأزق حقيقي.. عندئذ تولد ذروة القصة..
****************
كنت أدخر هذه القصة لأحكيها لقرائي.. لكن لما كانت أقصر من اللازم فإنني سأحكيها لكم الآن في حلقة الرعب الوليدة هذه.. كان ذلك عام 1964م.. قابلته في الطريق العام في مكان ما من شارع شريف.. هل كنت رائحا أم غاديا؟.. مكتئبا أم متفائلا؟.. أصلع الرأس أم غزير الشعر؟.. لا أذكر.. لكني فقط أذكر أن رؤيته فتحت أمامي كونا من الذكريات.. كان بدينا متلاحق الأنفاس يبلل العرق الغزير جبينه وموضع شاربه وتحت إبطيه وكان يرتدي قميصا صيفيا واسعا وبنطالا رثا.. الخلاصة أنني استشعرت أن أحواله على غير ما يرام.. سددت أمامه الطريق بجسدي ورسمت أفظع ابتسامات الود على سحنتي.. فرفع نحوي عينين مذعورتين كأنما ناديته من كون آخر سحيق.. وللحظة احتشد للعدائية ثم بدأ يتذكر..
- رفعت.. رفعت إسماعيل..
=يوسف.. يوسف شوقي..
- يالك من وغد قديم..
=ما زال لسانك يقطر لطفا..
هل تعرف هذه اللحظات الخالدة؟.. لحظة لقاء صديقين قديمين حين يتهاوى سد الأعوام.. وحين تبدأ تلقائيا نغمة الحساب.. ماذا فعلت أنا؟.. وماذا حققت أنت طيلة هذه الفترة؟.. كم من الأحلام أثمرت شجراته وكم ذبل؟.. أية أمراض لم تحسبها تصيب مثلك وأصابتك؟.. ما أسماء أطفالك وهل هم حقا موجودون أم أنك لم تنجب بعد؟.. هل ارتفعت خطوة أم هبطت خطوة أم أنك ما زلت كما أنت؟.. وكالعادة تم الاتفاق على اللقاء.. أعطاني وريقة صغيرة متسخة رسم فوقها كيفما اتفق كروكيا مكان داره ودعاني إلى أن أزوره.. وليكن ذلك غدا إذا أمكن.. وفي الموعد كنت هناك حاملا علبة صغيرة ورزمة من الذكريات أنا أفهم هذه النوعية من الأمسيات..
سيعرفني على سيدة بدينة متشككة يقول لي إنها المدام وعلى مجموعة من الأطفال الوقحين الذين يضعون الميكروكروم على ركبهم.. ولسوف يقدم لي زجاجة مياه غازية وقدح شاي ولربما بعض الجاتوه.. ثم نمضي الوقت في كلام من نوع: هل رأيت فلانة؟.. أين فلان؟.. هل تذكر كذا وكذا؟.. كانت أياما رائعة ليتها تعود.. ثم نفترق على وعد بلقاء آخر.. وكالعادة لن يكون هناك لقاء آخر.. هكذا تمضي الأمور دائما.. ليس لي أن أتوقع أكثر.. لأنه لن يكون هناك أكثر..
********************
كانت شقته تنم عن ذوق رائع.. ودون جهد أدركت أنه غير متزوج.. لا تستطيع زوجة أن تنسق شقتها بهذا الذوق الرائع دعك من أن الأطفال لن يدعوا حجرا فوق حجر.. السؤال الوحيد هنا هو ذلك التناقض ما بين ثيابه الرثة وشقته الفاخرة المريحة للأعصاب.. كيف ذلك؟.. وما سر عدم زواجه حتى تلك اللحظة ما دام غير مجنون مثلي؟.. إن الإجابة آتية لا ريب فيها.. أما الآن.. فلألعب دور صديق الصبا الودود.. إن يوسف بحاجة إليّ لسبب لا أدري كنهه.. وعليّ ألا أخيب ظنه..
***********************
جلست في غرفة الصالون على حين أخذ يصدر أصواتا تدل على الترحيب والحماس.. ثم إنه أحضر لي صينية عليها زجاجة مياه غازية وهو يثرثر عن أصدقاء الصبا ويسألني عن أسماء عديدة وعن مهنتي وعن رحلاتي وعن كل شئ..
- رفعت.. إنني بحاجة إليك..
قالها دون مناسبة وكنت أتوقعها تماما.. ثم انفجر في البكاء دون أي مبرر.. وأنا لا أحتمل هؤلاء السخفاء الذين يبكون فجأة.. فهم يجعلون الحياة غير محتملة.. لكني قمت نحوه وقمت بواجبي تجاه صديق يبكي.. قدمت له منديلي ثم عدت لمقعدي وشرعت أدخن وأرمقه في دهشة.. تمخط في المنديل -اللعين- ثم أعاده لي شاكرا فطويته ودسسته في جيبي مشمئزا..
- معذرة يا رفعت.. كل ما في الأمر هو أنني..
=نعم نعم.. تشعر بالوحدة.. هذا واضح..
- كلا أنت لا تفهم..
ثم جلس جواري وحدق في عيني بعينيه المذعورتين الغائصتين في لحم وجهه البدين -كأنهما ثقبان في كرة من الصلصال- وجفف العرق من على جبينه وبدأ يلهث:
- إنهم خلفي..
=حقا..؟!
قرب وجهه من وجهي وهمس في جزع:
- أقسم لك.. إن هي إلا دقائق.. ساعات.. أيام ويجدون مكاني وعندئذ..
=وعندئذ..؟
- عندئذ سيتذكرون!..
الآن اتضح لي الأمر.. أنا أعرف هذه السمات وأفهم هذه النغمة تماما ولقد سمعتها مرارا من قبل.. حين دعاني يوسف إلى داره كنت أخاله يخفي لي ما هو أفضل من البارانويا - جنون الاضطهاد- لكنه للأسف لم يكن يملك سواها.. وها هو ذا يردد نفس الكلمات التي نسمعها في كل حالة عن (الآخرين) الذين يبحثون عنه ويراقبونه.. يجب أن أنصرف ولكن في سلاسة لأن مريض البارنويا مرهف الحس ويمكن أن يغدو عدوانيا.. كما أنه في أقرب فرصة سيعتبرني (منهم) مما يجعل بقائي وحيدا معه خطرا لا بأس به..
=يتذكرون ماذا؟..
- يتذكرون أنني السبب في وجودهم..
=آه..!..فهمت..
ولعنت في سري أعباء الصداقات القديمة.. لماذا أنا بالذات كلما قابلت صديقا قديما وجدته قد غدا لصا أو قاتلا أو مجنونا؟!.. كان يجفف عرقه في عصبية ويقول:
- في كل ليلة يجافي النوم عيني وأدعو الله ألا تكون هذه هي الليلة المختارة..
هرشت عنقي في تؤدة ثم قررت أن أجازف:
=يوسف.. لماذا لا تتحدث بالتفصيل؟.. أنت تتصرف وكأنني على علم مطلق بكل ما تقول..
- حقا؟..
=إن كلماتك المبتورة تدعوني لإساءة الفهم كما تعلم..
=وتظنني معتوها؟..
هززت رأسي محاولا أن أنفي ذلك ثم وجدت ألا داعي لذلك فهو منهك ومستسلم ولن يفيده بشئ أن أنكر.. قال في لوعة:
- لا ألومك كثيرا.. أنا نفسي لا أملك الثقة الكافية كي أنفي ذلك أو أثبته وأحيانا ما أحسب كل ما مررت به كابوسا ثقيلا.. ولكن.. لماذا لا أحكي لك كل شئ بالتفصيل؟.. هل أنت مرتبط بموعد آخر؟..
=بتاتا..
-إذن سأحكي لك كل شئ..
******************
سأحاول هنا أن أكون دقيقا وأن أحكي كل ما قاله لي على مدى ثلاث ساعات بالطبع هناك تفاصيل منسية لكنها أو هذا ما أرجوه غير جوهرية في قصتنا.. حدثت قصته في عام 1957.. في ذلك الوقت لم يكن يوسف في مصر.. بل كان موفدا إلى ألمانيا في رحلة دراسية بغرض الحصول على درجة علمية في الآفات الزراعية ومقاومتها.. تلك الدرجة التي لأسباب سنعرفها فورا لم ينلها قط.. كان الفتى منبهرا تماما بكل شئ.. وخاصة بأستاذه العجوز أوبرمان الذي أيقن تمام اليقين أنه يعرف كل شئ عن أي شئ يخطر لك.. وكان فريق عمل مكونا من فطاحل العلم مجتمعا في ذلك المعمل قرب لابزيش عاكفا على دراسة الاحتمالات التي لا تنتهي للتوازن البيئي والسيطرة البيولوجية على الآفات.. حين يذخر بيتك بالفئران يمكنك دائما أن تبتاع سما.. لكن الحل الأدنى للطبيعة هو أن تبتاع قطا.. وفي مصر يلتهم سمك المبروك قواقع البلهارسيا -أو هذا ما يحاولون عمله- ويلتهم سمك الجامبوشيا يرقات البعوض.. وهكذا تعالج الطبيعة نفسها بنفسها.. لكن التوازن الطبيعي لعبة خطرة.. ففي بعض ولايات الهند على سبيل المثال اعتادوا تربية الوطاويط لتلتهم الفئران لكنهم بعد أعوام ألفوا أنفسهم أمام وباء حقيقي من الوطاويط.. كان العلماء الألمان يحاولون الحصول على أفضل شئ من القوانين البيولوجية دون أن يفسدوا اتزان الطبيعة.. وهم يلعبون على ورقة رابحة اسمها قانون الانتخاب الطبيعي.. لم تكن الهندسة الوراثية متقدمة في ذلك الزمن السعيد ولا كل اللعب بجينات باكتريا (إ.كولاي) البريئة الذي نسمع عنه اليوم.. لهذا كانوا يعتمدون على قانون الطفرات.. وعلى قابلية الصفة وليدة الطفرة على الاستمرار في عدة أجيال تصير كلها بالتدريج حاملة لهذه الصفة.. وعن طريق توليد عدة أجيال ترسخ الصفة وتتم تنقيتها وإضافة ما يلزم لها.. ولو أن مثل هذه التجارب تجرى على بشر لاحتاجت ملايين السنين حتى تظهر نتائجها.. لكنهم كانوا يتعاملون مع نوع من الخنافس تشبه خنفسة أبو عيد المعروفة عندنا.. ومعها يمكنك إنتاج عدة أجيال في شهور.. كانت سلالة جديدة قد بدأت تنشأ لا علاقة لها بالأجداد.. وانطلاقا من ولع العلماء بالأسماء المعقدة والرطانة فقد أسموها بالاسم اللاتيني انتوفاجا وهو لمن يعنيه الأمر منكم خليط من مقطعين معناهما آكلة الحشرات.. لأن هذه الحشرة الوليدة تأكل الحشرات الأخرى التي قد تتطفل على المزروعات.. إن الانتوفاجا أمينة على النبات شرسة مع أية حشرة لصة تسول لها نفسها الآثمة أن تسطو على الحقول.. الانتوفاجا تتوالد كالسماك أو أسرع قليلا وحركتها سريعة وشهيتها جامحة.. ولونها أخضر تعجز الطيور عن تمييزه واصطيادها.. وفي حالة انفلات عيارها يمكن القضاء عليها بجرعة صغيرة من أي مركب فوسفوري عضوي.. جرعة لا تؤذي أي كائن حي.. إن الانتوفاجا هي الحل السعيد لكل مشاكل الزراع.. لكن الألمان حذرون ولا يدعون شيئا للمصادفة وهم لن يعمموا الفكرة قبل تمحيص لا بأس به لعشر سنوات على الأقل لأنهم يعلمون أن الخلل البيولوجي يكون في الغالب فادحا عسير الاصلاح.. والبحث العلمي هو نوع من اللحوم القاسية الألياف التي يجب أن تطهى على نار هادئة لساعات قبل أن تقدم للآكلين.. لكن يوسف كان عجولا.. وكان كما قلنا منبهرا بكل شئ.. لهذا شرع في غرفته الصغيرة الأنيقة يصغي لموسيقا باخ السماوية ويحلم بما يمكن أن تحقق هذه الحشرة في مصر.. أن يأتي اليوم الذي تبيد فيه هذه الحشرة ديدان القطن بعبع زارعي القطن ومصاصة دماء الاقتصاد المصري.. أن تملأ هذه الحشرة حقولنا لاعبة دورها الهام بإخلاص وأمانة ودون كلل.. إنه المجد.. بمرور الوقت لاحظ الأستاذ أوبرمان تبدلا في تركيز ومواظبة تلميذه.. أنت تعرف كيف يبدو الانسان الذي استعبدته فكرة واحدة وكيف يتصرف.. ها هو ذا يوسف يكف عن البحث في المراجع المطلوبة منه ولا يدون الملاحظات ويتأخر في الاستيقاظ صباحا.. ثم إنه يحوم أكثر من اللازم حول معامل التحكم البيولوجي حيث تجرى تجارب الإنتوفاجا التي لم يكن له دور حيوي فيها.. ولعدة مرات أنذره الأستاذ ولعدة مرات توسل يوسف أن يعطيه دورا أكبر في هذه التجارب لكن العالم الألماني كان صارما لا يتزحزح..
وبدأت الخطة تختمر في ذهن يوسف.. إنه الآن بعد ستة شهور على خبرة لا بأس بها بما يفعلون وهو قادر على البدء في تجاربه الخاصة في هذا الصدد.. فقط تلزمه بعض البويضات وعدة حضانات توفر الظروف البيئية المثلى للفقس على أن الانتوفاجا كانت حشرة قوية يمكنها كالصرصور أن تعيش في ظروف قاسية جدا سواء في القيظ أو البرد.. ولم يكن ثمة حاجة للتحذلق المعملي.. وهكذا.. طلب إجازة من هيئة البحوث ليعود فيها إلى مصر.. ثم إنه تسلل إلى المعمل وبجفت صغير نقل بعض الشرائح الزجاجية التي تراصت فوقها البويضات إلى علبة صغيرة مغلفة ومبطنة بالقطن الطبي.. وأعد حقائبه وودع أساتذته مؤقتا.. لكنه هو وحده كان يعرف أنه لن يعود أبدا..
**********************
كانت شقته صغيرة في بنها هي داره حيث يعيش وحيدا وهو في هذا يشبهني كثيرا إلا أنه يختلف عني في أن فكرة ضخمة صاخبة كانت تنسيه هذه الوحدة ولا تدع له وقتا لأي شئ سواها.. إن الأفكار المصطخبة في رأسه كانت تجعل شقته مزدحمة وكان يثرثر مع الأحلام.. ويتشاجر مع مخاوفه.. ويضحك من دعابات لم يقبلها أحد.. هل جن؟.. لا أظن ذلك.. لكن كل الظروف كانت مهيأة لذلك لو لم يجد ما يشغله فلا يترك له وقتا للجنون.. وكانت الحشرة هناك.. الحشرات اللامعة الخضراء اللون شديدة الأناقة التي غادرت بويضاتها لتوها كي تتعرف جدران معمله والأقفاص الزجاجية المضاءة التي أعدها لها.. وتلتهم الذباب والصراصير وديدان القز التي كان يأتيها بها.. كان يعرفها حشرة حشرة حتى ليكاد يطلق عليها أسماء مميزة.. ويقول يوسف ولا أدري كيف أنه بدأ يفهم أن لكل حشرة شخصية متميزة وشكلا متفردا يفرقها عن زميلاتها.. ومضت الأيام.. وبدأت الإناث تنتفخ بالبيض ثم تتحرك في تؤدة وثقة كي تضعه في صفوف متراصة على ألواح الزجاج الرقيقة المثبتة أفقيا في أقفاصها.. وهكذا ولدت السلالة (إ-1) أولى سلالات هذه الحشرة في مصر.. وما إن اشتد عود الصغار حتى نقلها إلى قفص زجاجي آخر وشرع يعرضها لمؤثرات بيئية قاسية.. في البدء عرضها لدرجات حرارة مرتفعة يوما بعد يوم.. وكما هو متوقع هلك أكثرها لكن ما بقي منها كان قادرا على تحمل درجات غير واردة أصلا.. ثم جاء الجيل التالي (إ-2) قادرا على ذلك كله.. وشرع في كل يوم يبتكر مشكلة جديدة أو عائقا من نوع آخر وذلك حتى وصل إلى الجيل (إ-58).. التقط بالجفت واحدة من الحشرات وطفق يتأملها.. كانت تختلف تماما عن الحشرة الأولى التي استعارها من معمل البحوث الألماني حتى كأنها نوع آخر مستقل تماما.. كانت أضخم حجما.. ولونها يميل إلى الحمرة.. ومنظرها غير مريح على الإطلاق.. وكانت تئز بصوت رتيب مفزع.. لكنها كانت ابنته.. وكان يحبها كما يجب أن يحب ابنته.. مد يده في رفق أمامها.. فتحركت في حذر ودنت من أنامله.. وأحس بها تتلمسها بفمها.. ثم كانت العضة القاسية.. لكنه تقبلها في استخفاف بنفس الطريقة التي تتقبل بها أنثى الذئب عضات جروها الحانية لأذنيها..
- إنك قد صرت شرسة يا فتاة.. هيا انزلي!..
قالها وهو يمد يده ليلتقطها حيث كانت تقف فوق كف يده الأخرى.. لكنه فوجئ أنها متشبثة.. متشبثة إلى حد أنه قاتل قتال الشهداء كي ينتزعها من لحمه.. وحين استطاع أخيرا وجد خيطا من الدم ينسال من بقعة حمراء صغيرة في كفه..
- إذن أنت تحتاجين اسما آخر..
ووضع قطعة قطن على موضع النزف مفكرا:
- أنثروفاجا.. آكلة الانسان.. نعم.. هو كذلك.. هذا الاسم يلائمك تماما وأنت السبب في ذلك ولا أحد سواك!..
وهكذا.. مضت الأيام في سلام.. إلى أن حدثت الكارثة التي يتوقعها ويعرفها ويخشاها كل عالم تمضي بحوثه دون مشاكل لابد من مصيبة ما.. وكانت هذه المصيبة في حالتنا هي عربة رش المبيدات التي تجوب الشوارع في وقت الغروب وكان معمل يوسف مفتوح النوافذ في تلك الآونة طلبا للتهوية.. وكان هو عاكفا على تشريح إحدى حشراته تحت المجهر حين سمع صوت الموتور المألوف وامتلأت الغرفة بضباب ال(د.د.ت) طيب الرائحة شديد السمية حتى أن يوسف لم يعد قادرا على رؤية كفيه.. كفيه الذين راح يلوح بهما في هستيريا محاولا إزاحة الدخان صارخا كالملسوع:
- توقفوا يا أولاد الـ(....)..!..توقفوا..!..إنكم تقتلونهم!..
كان يعرف تماما ما سيجده عند انقشاع الضباب لأن الأقفاص الزجاجية كانت كلها مفتوحة من أعلى.. يا للكارثة!..يا للخسارة!.. في كل الأقفاص كانت (بناته) منقلبات على ظهورهن وقد لفظن أنفاسهن.. عشرات الأجيال.. مئات الحشرات.. إنه لم يتصور أن في العالم كله مشهدا بهذه القسوة والبشاعة..
كل المجهود المضني الذي ضاع هباء.. لم يعد يرى شيئا لأنه كان يبكي.. الدموع تشوه الموجودات.. وتسيل من أنفه فيحاول منعها بشهقات قصيرة متوالية.. على الأرض تربع ممسكا برأسه ينشج.. وفجأة سمع الأزيز.. وثب على قدميه كالملسوع إلى مصدر الصوت.. ولدهشته وجد عددا من الحشرات من سلالة (إ-58).. عددا لا يتجاوز العشرين.. وكانت حية.. واهنة ضعيفة لكنها حية.. يجب إخراج هذه المخلوقات إلى الهواء الطلق.. إن الخيط لم يفارق أنامله بعد.. ويمكنه أن يجذبه ويعيد لفه حول إصبعه.. وفي حماس تخلص من الحشرات الميتة وبدأ يعد المكان لاحتضان هذه السلالة الناجية التي سره أن وجد بين أفرادها خمس إناث.. وهنا نشعر بالقلق.. ونود أن نصرخ في يوسف ألا يفعل.. لقد تحملت هذه الحشرات جرعة قاتلة من ال(د.د.ت).. وهذا يعني أنها صارت منيعة تقريبا.. وستورث هذه المناعة للأجيال التالية.. لكن يوسف لا يعلم ولا يتوقع شرا.. وهذا هو بيت القصيد..
التمع ضوء البرق الفضي فاستدرنا في توتر نرمق ستائر النافذة وشعرنا بالقشعريرة.. قالت مدام ثريا وقد بدأ جفناها يزدادان ثقلا:
- هل يرغب أحدكم في النوم؟..
كان حديثها موجها لعدد محدود منا لأن رأس د.محمد كان قد تهاوى فوق صدره وتعالى صوت غطيطه وكذا ألقت سهام برأسها للوراء وفغرت فاها.. أما عادل فكان يرمقني بعينين دمويتين يكاد ينفجر منهما لولا غشاء الملتحمة.. إن قصتي كما هو واضح لم تلق حماسا كبيرا.. لكن ما عزاني كان هو د.سامي بجلسته المتحفزة المهتمة.. وهويدا التي انحنت للأمام كأنما انكسر ظهرها نصفين وقد أراحت ذقنها على قبضتها.. دعك من شكري العدواني المتحمس المستعد في أية لحظة لضربي.. قال شكري وهو يأخذ سيجارة من علبتي:
- إنها قصة لا بأس بها حتى الآن.. وهي تلعب على الوتر الإغريقي القديم: الإنسان الذاهب في إصرار أحمق إلى نهايته..
=إنه الافتتان.. الانبهار.. الفضول الذي جعلني أصر على استكمال تجربة مصاص الدماء.. وأقبل تشريح مومياء الفرعون..
ابتسم د.شكري في غموض وقال:
- الواقع يا د.رفعت أن اهتمامنا واحد.. ويمكن لتعاوننا أن يفضي إلى نتائج لا بأس بها.. فلديك ذكرياتك الرهيبة ولدي الموهبة..
=أشكرك.. لكني أملك بعض الموهبة أنا الآخر..
قال د.سامي وهو يتمطى:
- أكمل يا د.رفعت قبل أن تفلت خيوط القصة منا.. إن النعاس يهاجمنا وهو كفيل بأن يفسد كل شئ..
********************
أين قد توقفت؟.. آه.. عند السلالة التي نجت من المبيد الحشري ومحاولة يوسف أن يبدأ كل شئ من جديد.. لقد استغرق الأمر عدة شهور.. إلا أنه وبعد جهد مضن استطاع أن يتملى جديا السلالة (إ-60)تلهو في قفصها الزجاجي الجديد.. لونها أدنى إلى لون الدم وحجمها يقارب حجم الجرادة وشراستها كسمكة القرش.. صحيح أن تغير لونها أفقدها مزية هامة هي المماهاة أو بمعنى آخر قدرتها على الاختفاء وسط خضرة المزروعات بعيدا عن أعين أعدائها الطبيعيين: الطيور.. لكنه بدأ يعتقد أن الطيور تحتاج لشجاعة غير عادية كي تفكر في اشتهاء هذه المخلوقات البشعة..
********************
كان هذا هو يوم الجمعة.. وبعد سهرة طويلة مع أوراقه وملاحظاته دخل فراشه لينام.. كم نام بالضبط؟.. لا يذكر.. لكنه واثق أن صوت أذان الفجر كان يتسرب عبر مصراع النافذة حين سمع ذلك الأزيز المألوف.. أدرك (أنهم) في مكان ما من الغرفة معه.. وحين مد يده لمفتاح الكهرباء.. وحين فتح عينيه في دهشة.. وحين نهض من الفراش باحثا بقدمه عن خفه كان يتوقع كل شئ سوى ما رآه.. لم تكن هناك واحدة منها ولا اثنتان.. بل عشرات.. عشرات الحيوانات الحمراء فوق الدولاب وعلى السجادة وفوق الستائر وتحت الفراش.. وكانت تموج بالحياة والصخب وتتحرك بثقة هنا وهناك وتتزاوج.. وتلهو وتستكشف المكان.. فرك عينيه متوقعا أن يصحو من الكابوس غارقا في العرق.. لكن كل شئ ظل كما هو.. كيف غادرت هذه المسوخ أقفاصها؟.. وكيف وصلت هنا؟.. لقد صار الأمر خطيرا..
هرع إلى الغرفة التي اتخذها معملا وأضاء النور ليجد أن السلالة (إ-60) هي التي غادرت قفصها الزجاجي.. الغريب في الموضوع أنها استطاعت بشكل ما أن تزحزح الغطاء الثقيل وتنسل من تحته مغادرة سجنها.. والأغرب هو أنها عرفت طريق غرفته مسترشدة بالرائحة أو الادراك فائق الحس لا يدري بالضبط.. لقد تفوقت هذه الحشرات على نفسها!.. وكأي مصري صميم يجد جيشا من الحشرات على باب دولاب غرفته خلع يوسف خفه بغية ضرب أكبر عدد من هذه الحشرات.. وهوى به على مجموعة منها.. لكن ما حدث كان عجيبا.. وكانما يضرب صفحة الماء.. اتسعت دوامة من الحشرات بلمح البصر تاركة قلب الدائرة فارغا حيث تهوي ضربته فما إن رفع يده حتى التأمت حشود هذه الكائنات في ثقة وعادت تمارس حياتها!.. جرى كالمجنون إلى زجاجة المبيد الحشري التي يضعها تحت الفراش وبدأ ينفث السائل السام على هذه الحشود.. لكن النتيجة كانت سلبية.. وكأنما أسعد هذه الحشرات أن تستحم قليلا بهذه المادة عطرة الرائحة.. المشكلة الأدهى كانت هي أن هرس هذه الحشرات مستحيل فلو لم تراوغ تبقى حقيقة أن طبقتها الكيتينية المغلفة لها قاسية جدا.. وكأنك تحاول هرس بارجة حربية.. وهكذا لم يبق أمامه سوى أن يجلب دلوا وبعصا طويلة يسقط ما تيسر من هذه الحشرات في الدلو توطئة لإعادتها للقفص الزجاجي.. عملية مملة مرهقة استغرقت أربع ساعات من الجهد المتواصل.. إلا أنها انتهت أخيرا وأمكنه أن يعود للنوم في غرفة خالية من الأزيز.. هذا بالطبع بعد أن تأكد من إحكام غلق القفص.. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يلمح فيها بصيص الخطر وسط ظلمات غفلته..
******************
لكنه نسي عبد العزيز.. وعبد العزيز إذا لم تكن تعلم هو الخادم العجوز الطيب الذي يبتاع له حاجيات السوق وينظف الشقة يوميا ثم يغادره في الظهيرة ويتقاضى خمس جنيهات في الشهر.. ومن الإهانة لذكائكم أن أقول أن عبد العزيز كان ممنوعا من دخول المعمل رغم علمه بما يدور فيه.. كان يوسف ينظفه بنفسه إلا أنه في الصباح التالي وجد المعمل في حال يرثى لها من أثر أحداث الأمس.. حال لا يمكن تقويمها.. لهذا طلب من العجوز أن يعالج الأمر بحنكة.. وخرج إلى الشرفة يدخن ويرمق العالم بعينين لا تريان.. ثمة شئ يحدثه أن الأمور لا تمضي كما يجب.. إن هذه الحشرة توشك أن تكون منيعة.. وسلوكها الجماعي يثير حيرته إلى حد غير عادي.. إنها ذكية ونشطة ولا تتصرف بذعر الحشرات التقليدي.. فما معنى هذا؟.. يوجد حل واحد ألا وهو التخلص من السلالة (إ-60).. ربما عن طريق دفنها وليحاول أن يبدأ من جديد باحثا عن أجداد أغبى وأضعف لها.. نعم هو كذلك.. و.. دخل من الشرفة قاصدا المعمل مناديا الخادم العجوز:
- عبد العزيز!.. ألم تنته بعد؟..
لم يرد الرجل وهذه هي مشكلة الشيوخ.. كلهم مصابون بتصلب عظام الأذن وصمم الشيخوخة..
- عبد العزيز!..أين أنت؟..
وفي تؤدة دخل من باب المعمل مواصلا النداء:
- عبده!.. هل توفاك الله؟..
لم يدر أبدا إلى أي حد كان صادقا.. هناك جوار المنضدة وجد أسوأ كوابيسه وقد تحقق.. لن أصف المشهد.. لكنكم تستطيعون أن تتخيلوه.. وتستطيعون أن تتخيلوا وجه يوسف في اللحظة التي أدرك فيها أي مأزق قد جلبه لنفسه.. وأية كارثة..
****************
الحيرة!.. الحيرة القاسية نحو ما ينبغي عمله.. وكيف الخروج من ورطته هذه.. ليس من المستحب أن يجد البوليس هذا المشهد لأن محاولة تفسيره ستكون عسيرة بعض الشئ.. وناظرا إلى مسرح الأحداث بدأ يفهم كنه ما حدث.. والمفزع هنا أن الحشرات جذبت كم العجوز وأسقطته أرضا.. فالعجوز لم يكسر قفصا زجاجيا عن طريق الخطأ كما قد يتبادر لذهنكم.. نعم.. لن أحكي التفاصيل لأن هناك سيدات بيننا لكني سأكتفي بالقول أن يوسف أصابه الهلع.. الهلع البري الوحشي.. فلم يدر ما يجب وما لا يجب.. كل ما فكر فيه هو إبادة هذه الكوابيس مع أثر جريمتها..
- سامحني فلن يضيرك هذا..
قالها موجها كلامه للعجوز الذي كان يعرف أنه لن يسمعه.. وهرع إلى المطبخ.. ها هي ذي زجاجة الكيروسين وعلبة الثقاب.. وبدأ يسكب السائل على الحشرات وعلى الجدران.. على كل شئ في المعمل.. ثم أسقط موقد بنزن على الأرض وأشعل الثقاب و.. فر من الشقة سريعا بعدما أغلق بابها.. وفي بئر السلم دخن سيجارة بيد مرتجفة وقلب واجف.. ثم عاود الصعود ليجد كما توقع الدخان خارجا من أسفل الباب..
وخرج الجيران ليروا ما هنالك وقد شموا رائحة الدخان.. فوجدوه يحاول فتح باب الشقة في هستيريا وكان ذعره حقيقة لا تمثيلا ثم إن بعضهم استدعى رجال الإطفاء الذين اقتحموا الباب.. لقد أتت النيران على كل شئ.. وفي المعمل تناثرت ذرات رماد لم يعرف أحد كنهها وكيف لهم أن يخمنوا أن هذه الأجسام السوداء هي ما تبقى من السلالة (إ-60)؟.. وحتى تقرير المعمل الجنائي لم ير في القصة كلها سوى خادم عجوز بائس أوقع موقد بنزن مشتعلا على الأرض ولم يدرك ما حدث إلا بعد فوات الأوان.. نموذج آخر للإهمال المؤسف في حياتنا.. أما يوسف فقد ترك كل شئ خلفه وجاء يعيش في القاهرة ولا داعي للقول إنه صار حطاما بشريا.. سيظل شبح العجوز يطارده.. ومشهد الحشرة البشع.. وكل ما تلا ذلك من ملابسات درامية.. لكن الله تعالى رحيم وسيغفر له أكذوبته وطموحه المدمر ما دام قد أراح البشرية من هذا الكابوس الشنيع.. دعا الله كذلك أن يغفر له جريمة حرق حشرات حية وهو يعلم أنه لا يحرق بالنار إلا خالقها لكنه لم يكن يعرف أية وسيلة أخرى لتدمير هذه الكارثة البيئية التي أوجدها.. كان بحاجة لهدية الأيام التي لا تقدر بثمن.. النسيان..
*******************
وفي شقته الجديدة بدأ يمارس حياته الرتيبة.. وأخذ يتكسب عيشه عن طريق العمل كمحرر علمي لإحدى الصحف يرسل لها أخبارا من نوع (دواء جديد للسرطان) و (انتهت مشكلة الصلع).. إلى آخر هذه السخافات التي لا يمكن الإمساك بها أبدا.. أما هوايته في ساعات فراغه فكانت هي تحقيق طموح قديم له.. أن يصير بدينا كالفيل!.. وقد بذل كل مرتخص وغال من أجل هذا الطموح حتى برز كرشه وصار كرة من الزبد غزيرة العرق متلاحقة الأنفاس.. وهكذا.. كانت الأيام تمضي.. وجذوة الذكرى تخبو.. وسمنته تزداد ومقالاته تتوالى.. إلى أن ظهرت الحشرة..
*******************
جالسا في غرفة مكتبه سمع الأزيز أولا.. الأزيز الذي جعل شعر رأسه ينتصب وأمعاءه تتقلص.. شئ واحد في الكون يمكنه إصدار هذا الأزيز وهو لن ينساه أبدا.. نهض في توجس إلى الشرفة الموصدة وأرهف السمع.. ثم انحنى على ركبتيه ودقق البصر.. ها هي ذي.. كانت منهكة خائرة القوى لكنها هي.. هي.. ولقد تمكنت من الزحف تحت شيش الباب داخلة إليه.. ولكن ليتفحصها أولا.. مد يده في تقزز إلى الحشرة الوحيدة.. ووضعها على مكتبه وتأملها في توجس.. إنه لن يخطئ هذا الشكل وهذا اللون.. إنها واحدة من سلالة (إ-60) المشئومة.. لقد بحثت عنه ووجدته.. مهتدية بحاسة لا تخيب فعلت.. مهتدية برائحته فعلت.. مختبئة في ثيابه فعلت.. المهم أنها قطعت هذه المسافة الشاسعة كقط أليف يقطع البلدان في أثر صاحبه.. لم تنسه بعد كل هذه الشهور.. وقد وجدته.. فهل هي أول الغيث؟!..
******************
حبس الحشرة كي يتأكد من أنها لن ترسل إشارة بيولوجية ما لصديقاتها ثم عاد إلى غرفة نومه يرتجف.. لم يتصور قط أن هناك حشرات ناجية لكن هذا ما حدث.. ومن المؤكد أنه نساها في مكان لم تمسه النيران من الشقة أو.. وهنا أدرك في رعب أن هناك احتمالا آخر لكن يجب الاستيثاق منه أولا.. لهذا هرع إلى الحشرة وأمسكها بأنامله ثم قرب عود ثقاب ملتهبا من جسدها.. ولدهشته لم يحدث لها شئ.. وظلت تحاول التملص.. لقد كانت هناك طفرة.. وهذه الطفرة جعلت بعض الحشرات ذات طبقة كيتينية عازلة للحرارة ولا تشتعل وبالتالي استطاعت بعض الحشرات أن تنجو من الحريق الكبير.. ولكن هذا يعني.. نعم يعني ذلك.. يعني انه لو عادت الأنثروفاجا لزيارته فلن يستطيع القضاء عليها أبدا..
*******************
قلت ليوسف وأنا أضع ساقا فوق ساق وأتأمل الغرفة:
=إذن هذه الحشرات لعنة أبدية..
مسح قطرات العرق من على جبينه وهتف:
- أظن ذلك.. ولو أنها تملك الذكاء الذي أومن أنها تملكه فهي ولابد آتية للانتقام مني كما ينتقم الابن من أبيه الذي حاول قتله!..
=وكيف تمضي وقتك الآن؟..
- في الترقب..
تأملته في شرود محاولا أن أقرر ما إذا كان مجنونا أم عاقلا.. لم أحاول أن أتبين ما إذا كان كاذبا أم صادقا لأنه بالتأكيد صادق في رعبه.. إن هذا الزميل في ورطة.. لكن من أدراه أن هناك حشرات أخرى؟..
لماذا لا تكون هذه الحشرة التي رآها هي الوحيدة؟..
- لأن ثلاث حشرات زارتني بعدها في مدة أسبوع!..
=آه!..فهمت..
ثم نظرت لساعتي.. إنه يحتاجني طبعا لكن هذه مشكلته لا مشكلتي.. فلن أقضي حياتي جواره بانتظار حدوث شئ ما.. لهذا نهضت غير عابئ بعينيه المناشدتين..
=اسمع يا يوسف.. أنا..
- ابق معي ساعة واحدة..
=ولكن..
- ربع ساعة آخر..
أنا أفهمه تماما.. وهو يرتجف هلعا من الوحدة والعودة لمخاوفه لكن ماذا بيدي أن أفعل؟.. إن لدي مشاغلي وأعباء حياتي..
=يوسف.. إن هذا لن يغير شيئا.. كل ما يمكنك عمله هو سد كل فتحات دارك في إحكام.. وقضاء أطول وقت ممكن بين الناس..
احمر وجهه حنقا.. ونهض صائحا ملوحا بكفه:
- كذا أنت!.. مثلهم جميعا!.. كلهم يبدون علامات الفهم ثم يهرعون للحاق بفيلم السهرة حامدين الله على أنهم ليسوا في وضعي!..
ثم أرغى وأزبد.. وشعرت به يدفعني للباب دفعا..
- اذهب!.. اذهب لتحصي أرباح اليوم وتغازل فتاتك وتلتهم أفخر الطعام ثم تنام شاعرا بأنك فعلت ما عليك تجاه معتوه مثلي!..هيا.. اذهب!..
وقبل أن أفهم ما حدث انغلق الباب خلفي كصفعة انهالت فوق قفاي فلم أتمالك نفسي من الشعور بالإهانة..
******************
شارد الذهن مطرقا للأرض أدرت وجهي لأنصرف.. وهنا استرعت انتباهي مساحة كبيرة من اللون الأحمر على درج السلم الرخامي والجدار.. دققت بصري أكثر على ضوء المصباح الكهربي الخافت فوق الباب.. فميزت عشرات.. بل مئات الحشرات متراصة على الأرض وعلى الجدار.. حشرات ضخمة حمراء اللون لا توحي بالثقة أبدا.. حشرات أعرف وصفها.. وأعرف جيدا معنى وجودها هنا.. لقد جاءت كما توقع يوسف ووقفت على الباب تنتظر.. كانت تتحرك حركات دوامية منتظمة عصبية بعض الشئ.. كأنها تشعر بالتململ بانتظار شئ ما.. وكان منها من تعبث هنا وهناك.. ومنها من تستكشف.. لكنها جميعا كانت تنتظر..
******************
يجب أن أعبر هذه البحيرة من الأجساد المقززة طالبا نجدة.. لكن ما إن حركت قدمي حتى وجدت أنه من المستحيل أن أطأ الأرض لأن هذه الأشياء تكدست في الموضع الذي ستهبط فيه قدمي.. من الواضح أنها تتأهب لجذب الحذاء او شئ مماثل.. لا مخرج من هذه الناحية.. تراجعت للخلف في تؤدة وبطء محاذرا أن تبدر مني حركة عصبية.. وقرعت الجرس في هستيريا.. مرتين.. ثلاثا.. ولا استجابة.. بحيرة الحشرات تخضع لنوع من المد.. ولسانان أحمران يسيران ببطء نحوي.. افتح أيها الأحمق!..افتح.. خمس حشرات تزحف من أعلى باتجاه يدي الضاغطة على الجرس:
=يوسف..!..افتح!..أرجوك!..
بعد ثوان كالدهر سمعت صوته المتشكك من خلف الباب:
- ماذا تريد؟.. قلت لك أن ترحل للجحيم!..
=هذا هو ما سيحدث لو لم تفتح!..
لسان أحمر ثالث يلحق برفاقه.. هل أنا أحلم أم أن هذه الحشرات تهاجم بأسلوب الميمنة والميسرة والقلب العسكري العتيد؟!..
=يوسف!.. إنهم هنا..
- هم؟..
=افتح الباب لترى!..
سمعت حامدا الله صوت المزلاج يفتح ثم لمحت وجهه الذي اسود ما إن رأى المشهد ومن فمه خرجت شهقة..
وقبل أن يغلق الباب في هستيريا بادرت بحشر جسدي في الفتحة الضيقة ثم جذبته خلفي وأغلقت الباب بإحكام..
- إذن لقد ضعنا!..
أخذ يرددها في هستيريا وقد تفككت صواميل جهازه العصبي تماما.. الدموع في عينيه واللعاب المتساقط من شدقه..
- ضعنا..ضعنا!..
=أشكرك على دقة معلوماتك..
- لا تحاول يا صديقي.. لا تحاول!..
عليك اللعنة!.. لست في شوق للمزيد من التوتر.. إنني بحاجة للحظة تعقل واحدة منك كي أعرف..
=هل هناك تليفون هنا؟..
هز رأسه يمينا ويسارا أن لا.. رفعت قدمي وشرعت أهوي بكعب الحذاء على الأرض محاولا بدقات متوالية أن أنبه الجيران.. وبعد عشر دقائق نظر لي بوجهه المتراخي المستسلم متسائلا عما أفعله بحق السماء..
=ياله من سؤال!.. أحاول لفت انتباه الجيران..
- لا تحاول.. لا أحد بالطابق السفلي.. كلهم في المصيف..
=إذن قضي علينا؟..
- بالتأكيد..
لكني لم أستسلم.. أنا لا أخاف الموت لأنه كأس سنرشفها جميعا لكني أمقت أن أموت على صورة طعام في أحشاء هذه الحشرات القذرة وهذا من حقي فيما أظن.. شرعت أجوب الغرفة مفكرا.. هذه الحشرات لا تتأثر بالنار ولا المبيدات الحشرية ولا يمكن سحقها بالحذاء.. إذن كيف؟.. لابد من وسيلة ما.. آه..الماء.. قوة الماء الجارفة التي لا تقاومها الحشرات.. هرعت للحمام.. فوجدت خرطوما مطاطيا طويلا لحسن الحظ.. فقمت بتثبيته إلى فوهة الصنبور وفتحت هذا الأخير.. وقبل أن ينهي الماء رحلته الطويلة بالداخل ركضت إلى باب الشقة وفتحته بحذر وصحت في يوسف:
=لا تتحرك.. ابق خلفي..
واعتصرت طرف الخرطوم بين أناملي لأزيد قوة اندفاع الماء.. ثم صوبته نحو البقع الحمراء.. وانطلق الماء يكتسح الأجساد البشعة التي لم تمت لكنها فقدت تماسك صفوفها وبدأ طريق يولد ما بين هذه الصفوف.. كنت أضغط على أسناني محكما التصويب ومن حين لآخر أسقط بعض الحشود من على الجدران.. ببطء شديد وحذر أشد نتقدم.. و.. فجأة توقف اندفاع الماء من فوهة الخرطوم.. لقد انقطعت المياه في أتعس لحظة ممكنة!..
*******************
نظرت نحوه في حيرة.. إلا أنه فارقني وهرع لداخل الشقة.. ثم سمعت صوته يصرخ مفسرا لي:
- لا شئ هنالك.. إن ضغط الماء أدى لانفصال الخرطوم من فوهة الصنبور..
=إذن أحسن تثبيته بيدك ولا تدعه ينفصل..
وعاد الماء يندفع وعدت أحاول تطهير المدخل إلى أن وصلت لدرجة معقولة من الفراغ تسمح لنا بالمرور دون خسائر..
=هلم يا يوسف.. اترك الصنبور وتعال..
فلم يرد.. رفعت صوتي أكثر وأنا أرش الحائط طلبا للإتقان:
=يوسف.. أسرع قبل أن تلتئم الصفوف..
فلم أتلق ردا مرة أخرى.. ركضت إلى الداخل بعد ان تركت الخرطوم على الدرج.. ودخلت الحمام فوجدت.. لقد فات الأوان.. فات.. لم أدر ولم يدر هو أن الحشرات يمكنها الخروج من البالوعة كما تفعل الصراصير.. ولابد انه كان غارقا في محاولة تثبيت الصنبور فلم يدرك أن الحشرات قد هاجمت شقته على جبهتين كأي جيش منظم يحاصر مدينة.. من خلفه زحفت و.. لقد انتهى يوسف على يد أبنائه وبناته.. السلالة (إ-60) التي تكاثرت وتمكنت من العثور عليه وجعلته يدفع الثمن.. انتهى يوسف وجاء دوري.. جريت كما تتوقعون يا رفاق إلى الباب والتقطت الخرطوم مواصلا عملية الإخلاء.. من الغريب هنا أن الحشرات لم تبد متحمسة لمهاجمتي كأنها قد زهدت القتل وكأنها جاءت في مهمة محددة وهذه المهمة قد انتهت.. وشرعت أثب درجات السلم.. إلى الشارع.. إلى سيارتي..
كانت ليلة كابوسية.. مئات الرجال يعملون في صبر.. علماء حشرات.. خبراء بيئة.. رجال شرطة.. مهندسون زراعيون.. وكانت الحقيقة المروعة التي لم يهضموها قط هي أن هذه الحشرات منيعة تماما.. ولم يجدوا وسيلة سوى جمعها يدويا أو بالرفش وتكديسها في صناديق كما هي.. واضطروا إلى تفكيك شبكة مجاري البناية كي يتأكدوا من أنهم لم ينسوا ذكرا وأنثى في مكان ما.. أما الصناديق فقد دفنوها تحت عمق سحيق وأهالوا فوقها أطنانا من التربة.. وابتكر العلماء مركبا ساما لا بأس به طهروا به المنطقة وشبكة الصرف تحت الأرض وبالطبع شقة يوسف كلها.. لكن التعيتم الاعلامي كان كاملا فلم يدر واحد من العامة بما حدث.. لقد عشت أهوالا عديدة بعد هذا الحادث وأزعم دون ادعاء كبير أنه لم يعد يزور كوابيسي وأنني تذكرت تفاصيله الأليمة هذه الليلة فقط استجابة لطلبكم.. إلا أنني ما زلت أجفل كلما سمعت صوت أزيز في مكان ما من شقتي.. وهو انعكاس شرطي له ما يبرره في الواقع..
*****************
إن من يبحث في مراجع علم الحشرات بدقة اليوم سيجد صورة تمثل حشرة ضخمة حمراء اللون لا توحي بالثقة.. وسيعرف أنها قد انقرضت تماما إلا من عينات محفوظة في بعض كليات العلوم بمصر.. وسيعرف أن اسمها اللاتيني هو أنثروفاجا ومعناه آكلة البشر.. أما الاسم الدارج لها بعيدا عن الرطانة فسهل تذكره.. لقد أسماها العلماء المصريون باسم: حشرة الشيطان.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://yousefahmed-com.ahlamontada.com
 
11- حلقة الرعب - الحلقة الثالثة
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» 11- حلقة الرعب - الحلقة الرابعة
» 11- حلقة الرعب - الحلقة الخامسة
» 11- حلقة الرعب - الحلقة السادسة
» 11- حلقة الرعب - الحلقة الأولى
» 11- حلقة الرعب - الحلقة الثانية

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
كنز القصص والمعلومات :: الفئة الأولى :: أساطير ما وراء الطبيعة-
انتقل الى: